الهجرة إلى قم

التحق الإمام الخميني بالحوزة العلمية بقم في رجب المرجب عام 1340 هـ. فطوى سريعاً مراحل دراسته التكميلية في الحوزة العلمية على ايدي اساتذتها.

ID: 32217 | Date: 2013/02/24
بُعيد انتقال آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي رَحمَهُ اللهُ الى مدينة قم، التحق الإمام الخميني بالحوزة العلمية بقم في رجب المرجب عام 1340 هـ. فطوى سريعاً مراحل دراسته التكميلية في الحوزة العلمية على ايدي اساتذتها. فقد اكمل كتاب المطوّل (في علم المعاني والبيان) علي يد المرحوم الميرزا محمد علي الاديب الطهراني، كما اكمل دروس مرحلة السطوح على يد المرحوم آية الله السيد محمد تقي الخونساري، والمرحوم آية الله السيد علي اليثربي الكاشاني. كذلك اتمَّ دروس خارج الفقه والاصول على زعيم الحوزة العلمية في قم آية الله الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي رضوان الله عليهم اجمعين.
إنَّ الروح المرهفة الوثابة التي كان الإمام الخميني يتحلىبها دفعته الى عدم الاكتفاء باتقان آداب اللغة العربية والدروس الفقهية والاصولية، بل ان يتعداها الي الفروع العلمية الاخرى. ومن هنا وتزامناً مع دراسته للفقه والاصول على ايدي الفقهاء والمجتهدين، درس الرياضيات والهيئة والفلسفة على المرحوم الحاج السيد ابي الحسن الرفيعي القزويني، ثم واصل دراستها مع العلوم المعنوية والعرفانية لدى المرحوم الميرزا علي اكبر الحكيمي اليزدي، كما درس العروض والقوافي والفلسفة الاسلامية والفلسفة الغربية لدى المرحوم الشيخ محمد رضا مسجد شاهي الاصفهاني، كما درس الاخلاق والعرفان لدى المرحوم آية الله الحاج الميرزا جواد الملكي التبريزي، ثم درس اعلى مستويات العرفان النظري والعملي، ولمدة ستة اعوام عند المرحوم آية الله الميرزا محمد علي الشاه آبادي اعلى الله مقاماتهم اجمعين.
بعد وفاة آية الله العظمى الحائري اليزدي، اثمرت الجهود التي بذلها الإمام الخميني برفقه عدة من المجتهدين في الحوزة العلمية بقم في اقناع آية الله العظمى البروجردي للمجيء الي قم وتسلم زعامة الحوزة العلمية فيها. وخلال هذه الفترة عُرف الإمام الخميني بصفة احد المدرسين والمجتهدين واولي الرأي في الفقه والاصول والفلسفة والعرفان والاخلاق. وان زهده وورعه وتعبده وتقواه كان يتردد علي لسان الخاصة والعامة.
ان هذه الخصال والسجايا الرفيعة التي كانت حصيلة سنوات طويلة من المجاهدة والتريض الشرعي وامتحان المفاهيم والاسس العرفانية في حياته العملية الشخصية والاجتماعية، ونهجه السياسي الذي جسد من خلاله اعتقاده الراسخ بحفظ كيان الحوزات العلمية وقوة الزعامة الدينية والعلماء باعتبارهم الملاذ الوحيد للناس في تلك الايام المضطربة الخطيرة، جعلته يوظف دائماً علمه وفضله وجهوده في ترسيخ اسس الحوزة العلمية الفتية في قم. فوقف رغم كل ما لديه من جدارة واختلاف في وجهات النظر، يدعم مرجعية آية الله العظمى الحائري ثم آية الله البروجردي اعلى الله مقامهما، وحتى بعد وفاة آية الله البروجردي. ورغم الاقبال الواسع عليه من قبل الطلاب والفضلاء والمجتمع الاسلامي كأحد مراجع التقليد إلا انه لم يخطُ أيّة خطوة يُشمُُّ منها رائحة السعي لكسب المقام والزعامة، فكان دائماً يحث محبيه ومريديه علي ' عدم الاهتمام بمثل هذه الامور. بل انّه أصرَّ على نهجه هذا حتى في الوقت الذي التف حوله وعاة المجتمع باعتباره المنادي بالاسلام الحق وانه يمثل ضالتهم المنشودة لتحقيق آمالهم لما كان عليه من التقوى والعلم والوعي، فلم يغير من سيرته ومنهجه قيد انملة متمثلاً قوله الذي كان يكرره دائماً إنّني اعتبر نفسي خادماً وحارساً للاسلام والشعب.
انه الرجل العظيم ذاته الذي عاد في (1 شباط 1979م) الى ايران ليجد الملايين من ابناء الشعب وقد اجتمعوا في اكبر مراسم استقبال في التاريخ احتفاءً بقدوم قائدهم. وحينما سأله احد الصحفيين بلامقدمة: ما هو شعوركم وانتم تعودون الي بلادكم بعد خمسة عشر عاماً في ضل هذه الابهة؟ سمع منه جواباً غير متوقع، إذ اجابه سماحته: لا شيء!.
لقد توهم ذلك الصحفي بأن الإمام الخميني كسائر القادة السياسيين الساعين الي السلطة ينسون انفسهم في مثل هذه المواطن المثيرة، ويطيرون فرحاً؛ غير ان الجواب الذي سمعه اوضح له بأن الإمام الخميني من سنخ آخر.
كان الإمام الخميني يعتقد بحق ـ كما اكّد ذلك مرات ومرات ـ بأنّ المعيار في سلوكه وتحركاته هو نيل رضا الخالق تعالى والعمل بالتكليف واداء المسؤولية الشرعية.
فهو يرى بأنّ الأمر سيّان بالنسبة له سواء كان في السجن والنفي، أو في ذروة القوة والاقتدار، مادام تحركه في سبيل الله. اساساً ان سماحته كان قد اعرض ـ وقبل عقود من ذلك التاريخ ـ عن الدنيا وما فيها وسلك طريق الوصول والفناء في الله. ولعلَّ اجمل تفسير لرده علي سؤال الصحفي يكمن في بيت الشعر الذي نظمه سماحته:

اذهب الى الخرابات واعتزلِ الخلق جميعاً وعلِّق قلبك بالمطلق واتركِ الباقي

مارس الإمام التدريس- خلال سنوات طوال ـ في الحوزة العلمية بقم، فدرّس عدّة دورات في الفقه والاصول والفلسفة والعرفان والاخلاق الاسلامية في كل من المدرسة الفيضية والمسجد الاعظم ومسجد محمدية ومدرسة الحاج ملاصادق ومسجد السلماسي وغيرها، كما مارس تدريس الفقه ومعارف اهل البيت عليهِمالسَّلاٰمُ ـ وعلى ارفع المستويات ـ في الحوزة العلمية بالنجف الاشرف، في مسجد الشيخ الانصاري رَحمَه اللهُ لما يقارب الاربعة عشر عاماً. وفي النجف الاشرف طرح ـ ولاول مرة ـ اسس الحكومة الاسلامية عبر سلسلة دروس ألقاها في موضوع ولاية الفقيه.
وعلى ما نقله طلابه، فإن حوزة الإمام الخميني كانت تعدُّ من اسمى المراكز الدراسية، وقد تجاوز عدد من يحضرون درسه في بعض الدورات ـ خلال السنوات التي قضاها في التدريس بقم ـ الالف طالب، كان بينهم العشرات من المجتهدين المعروفين والمعترف باجتهادهم، فكانوا جميعاً ينهلون من مدرسته في الفقه والاصول. فكان من بركات ممارسته التدريس ان تمكّن سماحته من تربية المئات بل الآلاف ـ اذ اخذنا بنظر الاعتبار طول سنوات الدراسة ـ من العلماء والحكماء ممن اصبحوا بعد ذلك مشاعل واعلاماً في الحوزات الدينية، ومجتهدين وفقهاء وعرفاء بارزين ممن يشار اليهم بالبنان اليوم في حوزة قم العلمية وفي سائر المراكز الدينية. وان مفكرين كبار امثال العلامة الاستاذ الشهيد مرتضي المطهري والشهيد المظلوم الدكتور بهشتي، كانوا يفخرون دوماً بأنهم نهلوا من محضر هذا العارف الكامل لسنوات.
واليوم فإن الوجوه اللامعة من العلماء الذين يقودون مسيرة الثورة الاسلامية ويوجهون نظام الجمهورية الاسلامية هم من طلابه وخريجي مدرسته الفقهية والسياسية.
هذا وستكون لنا وقفة عند خصائص ومميزات مدرسة الإمام الخميني في العلوم المختلفة، كما سنعرض في آخر الكتاب وبشكل مختصر الى تعريف كتب الامام ومؤلفاته.