النفي الى العراق

تم نقل الإمام الخميني بمعيّة نجله آية الله الحاج مصطفى الخميني من تركيا الى منفاه الجديد في العراق.

ID: 32223 | Date: 2013/02/20
في الخامس من تشرين الاول عام 1965 م، تم نقل الإمام الخميني بمعيّة نجله آية الله الحاج مصطفى الخميني من تركيا الى منفاه الجديد في العراق. ولا يسعنا في هذه العجالة التعرض بتفصيل الى علل واسباب تغيير منفى الإمام الخميني. ولكن نشير باقتضاب الى انها تمثلت في الضغوط التي مارسها المتدينون والحوزات العلمية داخل البلاد، والمساعي والتظاهرات التي قام بها المسلمون خارج البلاد من اجل اطلاق سراح الإمام، كذلك حرص النظام الملكي علي اظهار الاوضاع بالمظهر العادي والتدليل علي قدرة وثبات نظامه للحصول علي مزيد من الدعم الأميركي. اضافة، الي المشاكل الامنية المتفاقمة في تركيا وتزايد الضغوط الداخلية من قبل الاسلاميين على الحكومة التركية. والاهم من كل ذلك تصور نظام الشاه بان الهدوء وعدم وجود الرغبة في التدخل في الامور السياسية الذي كان يسود الحوزة العلمية في النجف الاشرف؛ ووضع النظام الحاكم في بغداد، كل ذلك سيمثل حواجز كبيرة تحدُّ من فعاليات الإمام الخميني.
بعد وصوله الى بغداد توجه الإمام الخميني لزيارة مراقدالأئمة الاطهار في الكاظميين وسامراء وكربلاء، ثم سافر بعد اسبوع واحد الى محل اقامته الجديد في مدينة النجف الاشرف.
ان الاستقبال الحاشد الذي حظي به الإمام من قبل طلبة العلوم الدينية وابناء المدن المذكورة، كان يدل بحد ذاته وخلافاً لتصورات الحكومة الايرانية، بأن نداء نهضة الخامس من خرداد وجد له انصاراً في العراق والنجف والاشرف ايضاً.
وقد اثبت الإمام الخميني ـ منذ بداية وجوده في العراق وعبر لقائه المقتضب مع ممثل الرئيس العراقي آنذاك (عبد السلام عارف) ورفضه الاقتراح القاضي بعقد مؤتمر صحفي وتلفزيوني ـ بأنه ليس ذلك الشخص الذي يرضى بان يجعل من اصالة ثورته الالهية ثمناً للمصالحة بين نظامي بغداد وطهران.
وقد بقي هذا المنحى من الاستقامة صفة ملازمة لنهج الإمام طوال فترة اقامته في العراق، وبذلك اثبت الإمام الخميني بأنه أحد أندر القادة السياسيين في العالم ممن لم يقبلوا ـ وهم في اشدّ حالات التعرض للضغط والمشكلات ـ بالدخول في المهاترات السياسية المتعارفة والمساومة على اهدافه. كان يكفي ـ بعد ظهور المناوشات السياسية بين حكومتي بغداد وطهران ـ ان يعطي الإمام الخميني موافقته المبدئية حتى تنهال عليه انواع الامكانات لتوظيفها في نضاله ضد الشاه، غير ان الإمام لم يمتنع عن الاقدام على ذلك وحسب، وانما كان يقف في تلك المواطن على جبهتين لممارسة دوره الجهادي، وفي احيان عديدة بلغ الموقف حدَّ المواجهة والقيام وضد النظام الحاكم في بغداد ايضاً.
ومما لا شك فيه لولا حنكة الإمام الخميني وحيطته لكادت الثورة الاسلامية أن تسير منذ ذلك الوقت في الطريق الذي طوته غالبية الحركات والجبهات والاحزاب السياسية الايرانية لأكثر من مرة، والذي لم ينتهِ بها الا الى التبعية والخذلان.
إنّ الفترة الطويلة ـ والتي ناهزت الثلاثة عشر عاماًـ التي امضاها الإمام الخميني في منفاه في النجف الاشرف بدأت في ظروفٍ ـ وإن كانت تبدوخالية من الضغوط والقيود المباشرة التي تعرض لها في ايران وتركيا ـ الا أنَّ المعارضة والمحاولات التحبيطية والكلام الجارح الذي كان يصدر من بعض العلماء القشريين واهل الدنيا المتخفين بلباس اهل الدين، كان بدرجة من الاتساع والايذاء جعلت الإمام يتحدث ـ رغم ما عرف عنه من صبر وحلم - عن ظروف الجهاد العصيبة في تلك السنوات بمرارة بالغة كلما مرّ ذكرها. لكنَّ أيّاً من تلك المصائب والمصاعب لم تستطع ثني الإمام عن مواصلة الطريق التي اختارها بوعي وادراك.
كان الإمام قد ادرك مسبقاً بأن الحديث عن الجهاد والدعوة للنهوض في ذلك الجوفعل غير مجدٍ. وكان يتوجب عليه البدء من النقطة نفسها التي ابتدأ منها في سنوات ما قبل انتفاضة الخامس من حزيران، في ايران والحوزة العلميةبقم، بمعنى البدء بالاصلاح والتغيير التدريجي للظروف، وتربية وتعليم جيل بامكانه ان يتحمل مسؤولية رسالته.
ومن هذا المنطلق شرع الإمام بتدريس بحوث خارج الفقه في مسجد الشيخ الانصاري في تشرين الثاني عام 1965م رغم الجهود المغرضة التي بُذلت من اجل ثنيه عن ذلك. واستمر في اعطاء دروسه هذه حتى فترةِ ما قبل سفره الى باريس.
وقد قادت المباني المتقنة للامام في الفقه والاصول، وتسلطه على مختلف فنون واقسام المعارف الإسلاميّة، بعد فترة وجيزة الى جعل درسه وحوزته من ابرز الحوزات الدراسية في النجف الاشرف كماً وكيفاً رغم ما بذله الرجعيون من جهود مثبطة محبطة. وكان يحضر درسه الطلبة الايرانيون، والباكستانيون والعراقيون والافغان والهنود والخليجيون وغيرهم لينهلوا من نبع علومه الدفّاق. وقد شجع ذلك انصار الإمام ومحبيه ممن كانوا في ايران في الهجرة الجماعية الى النجف الاشرف. غير ان توصيات الإمام الخميني بضرورة البقاء وحفظ الحوزات العلمية في ايران منعتهم من تنفيذ رغبتهم، وان كان العديد من عاشقي الإمام الخميني قد انطلقوا نحوالنجف الاشرف، وقد ساعد ذلك بالتدريج في ايجاد بؤرة لتجمع الثوريين المعتقدين بنهج الإمام، الذين حملوا على عواتقهم ـ فيما بعد ـ مسؤولية ايصال بيانات الإمام النضالية في سنوات الكبت والاضطهاد. ومنذ وصوله الى النجف الاشرف لم يقطع الإمام الخميني ارتباطه بالمجاهدين في داخل ايران، فقد اتخذ من المبعوثين والرسائل وسيلة لحفظ ارتباطه ذاك. وقد حرص على تضمين رسائله، التوصيات القيّمة حول ضرورة الثبات على مواصلة النهضة لتحقيق اهداف انتفاضة الخامس من حزيران. والعجيب ان كثيراً من الرسائل التي كان يبعثها الإمام الخميني كانت تتضمن الاشارة الى قرب وقوع انفجار عظيم على الصعيد السياسي والاجتماعي في ايران، ومطالبة المجتمع العلمائي الايراني باعداد العدّة لتحمل مسؤولياته في هداية المجتمع في المستقبل، وفي وقت كانت ظواهر الامور تشير الى انعدام الامل بتغيّر الظروف السياسية والاجتماعية، وفي ظرف كان النظام الملكي يبدوفيها اكثر اقتداراً نتيجة قضائه على جميع جيوب المعارضة الشعبية.
وبنفي الإمام الخميني وممارسة القمع والاضطهاد الشديدين بحق المعارضة، ابتدأ اسوأ فصول حكومة الملك البوليسية. فقد تحول (السافاك) الى وسيلة لممارسة القدرة الملكية المطلقة، حيث بلغ الأمر حدّاً جعل توظيف اصغر موظف في ابعد نقطة من البلاد مرتبطاً بموافقة جهاز السافاك. ولم يبق في هذا العهد من السلطات الثلاث الا اسماؤها، فقد كان الملك وبعض افراد البلاط وازلامه من الرجال والنساءهم المسؤولون عن كل نشاطات البلاد. ولقد اكدت اعترافات الملك ـ التي سطرها في آخر كتاب أصدره واللقاءات التي اجريت معه ـ وما كتبه اقرباؤه والمنسوبون اليه من موظفي وازلام البلاط ومن امراء الجيش واقطاب النظام الآخرين والتي نشرت بعد سقوط النظام الملكي في ايران، وكذا الوثائق التي تمت مصادرتها من السفارة الأميركية في ايران، اكدت بما لا يدع مجالاً للشك ان الملك والبلاط لم يكونا سوى آلاتٍ مسلوبة الارادة لاغير، وان ما كان يصدر عن البلاط والنظام الملكي، حتى تعيين الوزراء وقادة الجيش وتنظيم اللوائح المهمة، كان يتم بواسطة السفارة الأميركية ـ والانجليزيةاحياناً ـ. ونكتفي هنا بالاشارة الى مقطعين مما كتبه الشاه للتدليل على ذلك، كتب محمد رضا يقول: كان سفراء انجلترا وأميركا يؤكدان لنا في كل لقاء: بأننا سنقف الي جانبك. وخلال خريف وشتاء عام 1978ـ 1979م، شجعونا على ايجاد جوسياسي مفتوح ... غالباً ما كان السياسيون أو المبعوثون الأميركان الذين كنت استقبلهم، يشجعونني على الثبات والصمود. ولكن عندما سألت السفير الأميركي عن ذلك، اجابني بأنّه لم يتلق حتى الآن أمراً بذلك ... وقبل ذلك بعدة اسابيع، وعندما استقبلت مسؤول الاستخبارات الأميركية الجديد في طهران، دهشت لتصريحاته، تحدثنا قليلاً عن
الجوالسياسي المفتوح واذا بي انظر ابتسامة عريضة ترتسم على محياه ... على أيّة حال، إن اولئك الذين كانوا لسنواتٍ طويلة حلفناءنا الاوفياء كانوا يضمرون لنا عجائب غريبه فاجأونا بها .
الطريف ان الشاه حاول في هذا الكتاب الايحاء بأن هذه العوامل والاسباب الخارجية المفاجئة، هي التي أدّت الى سقوط نظامه، حتى انه صرح بأن الجنرال ربيعي ـ قائد القوة الجوية ـ قال للقضاة قبل إعدامه: ان الجنرال هايزر، القى بالملك خارج البلاد كما يُلقي بفأرة ميتة! والحال ان حديثه هذا يعتبر بحدِّ ذاته تحريفاً للتاريخ. فطبقاً للوثائق والمستندات التي لا تحصي' ـ وأهمها وأوضحها اعترافات الجنرال هايزر نفسه في كتابه ـ فإن من المؤكدان الجنرال هايزر كان قد وفد تعالى طهران من أجل الحفاظ على النظام الملكي الذي كان يتهاوى تلك الايام، وكان بصدد تنظيم انقلاب عسكري للسيطرة على الاوضاع في تلك الفترة الحرجة.
وعلى فرض قبول ادعائه هذا، فإن الملك وخلافاً للاسم الذي اختاره لكتابه، لم يعط اي جواب للتاريخ، وإلا فهل يمكن مع كل تلك الادعاءات التي كان يدعيها ـ من قبيل مخاطبته لكورش بالقول:نم، فنحن يقظون!! وغير ذلك مما اطلقه طوال 37 عاماً من حكومته ـ ان يتعامل مع استقلال بلاده بهذه الطريقة، بحيث يتمكن جنرال أميركي من الدرجة الثالثة أو الرابعة خلال اقامته في طهران لعدّه أيام من إلقائه كالفأرة الميتة خارج البلاد!؟
على أيّة حال، فبعد ضرب انتفاضة الخامس من حزيران، ونفي الإمام من البلاد، لم ير الملك حينها اي عقبة امامه تحول بينه وبين تحقيق تطلعاته. فقد وصلت الامور في البلاد الي وضع اصبحت بعض نساء البلاط يمارسن دورهن في عزل وتنصيب الوزراء والنواب والقضاة، حتي اطلق علي (اشرف بهلوي) اخت الملك لقب (الكلّ بالكل) في وقت كانت فضائحها الاخلاقية وترأسها لعدّة عصابات تمارس تهريب المخدرات تملأ الصحف والمجلات الأجنبية، وان اختيار احد البهائيين (امير عباس هويدا) الذي كان يردد مقولته المشهورة دوماً: روحي فداء لجلالة الملك وبقاءه على سدة رئاسة الوزراء الشكلية لا يعني سوي انعدام استقلال السلطات الحاكمة، وانعدام اي اثر وعلي ادنى المستويات لدور الجماهير في السلطة.
كان الملك يسعى بقوة نحوالتمدن العظيم الذي كان يتوهمه وراح ينفق من قوت ابناء الشعب علي الحضارة
المرتكزة الي ترويج الثقافة الغربية، وشيوع التحلل والتفسخ الاخلاقي، والإغارة على الثروات الوطنية والقومية عبر المئات من الشركات الأميركية والاوروبية في ايران، وتخريب البنية التحتية للزراعة الايرانية المستقلة نسبياً، وترحيل القوى المنتجة الايرانية، الي القوى والارياف وتحويلها الي قوى معطلة ومستهلكة، وتوسيع الصناعات التجميعية الذيلية وغير الضرورية، وتجهيز ونصب محطات الانذار المبكر ومحطات التنصت والجاسوسية والقواعد العسكرية الأميركية في ايران وفي منطقة الخليج الفارسي.
ففي الفترة من عام 1970 الي 1977 وحدها انفق مبلغ 26.4 مليار دولار من عائدات النفط علي الواردات
التسليحية الايرانية من أميركا، وخلال عام 1980وحده كان الملك قد ابرم اتفاقاً لا ستيراد ما قيمته 12 مليار دولار من الاسلحة الأميركية ؛ الامر الذي أُريد من خلاله ـ وبناءً على سياسة البيت الابيض ـ الحفاظ علي المصالح الأميركية في منطقة الخليج الفارسي الحساسة، وهي مهمة انيطت ايضاً بالمستشارين الأمير كان الذين بلغ عددهم آنذاك (60) الف مستشار.
كان نظام الشاه وفي اوج ثباته ودون أن يعاني من أيّ مشكلة خارجية، كان يبيع ستة ملايين برميل من النفط يومياً، في وقت لم تكن نفوس ايران تتجاوز 33مليون نسمة، وكان سعر البرميل الواحد من النفط قد تجاوز الثلاثين دولاراً للبرميل الواحد، وذلك لاسباب عديدة منها الحرب العربية الاسرائيلية والمساعي الغربية لتخزين كميات أكبر من النفط لاجل مواجهة التوقف المحتمل في تدفق النفط الاسلامي نحوالغرب واحتمال تعاضد الدول الإسلاميّة المنتجة للنفط بوجه الغرب، في حين كانت العديد من طرق البلاد الرئيسية غير معبدة، والقسم الاعظم من ابناء الشعب محروم من نعمة الكهرباء، بل من ابسط الحاجات لاساسية والوضع الصحي المطلوب.
في ذلك الوقت وبينما كانت مناطق واسعة من البلاد تعاني من ظروفٍ كالتي ذكرنا، كان عشرات الرؤساء والقادة والوزراء من البلدان الاخرى يجتمعون في العاصمة طهران لمشاهدة الاحتفالات بمناسبة مرور الفين وخمسمائة عام على بداية الامبراطورية الفارسية ليسعدوا برؤية تلك الاحتفالات الاسطورية. ولما كان المئات من العمال والعاطلين المشرّدين يعيشون في الاقبية وأكواخ الصفيح في جنوب وشرق وغرب طهران ووسطها، في حالة يرثى لها من الفقر والتردي الصحي، ولما كان هذا الأمر من السعة والانتشار في طهران الي درجة كبيرة، فقد أُجبر النظام اثناء تلك الاحتفالات علي القيام بإحاطة هذه الاحياء ـ خصوصاً الواقعة منها علي جانبي الطرق التي تمر منها الوفود الاجنبية ـ باسوار جميلة ومطليّة حتي لا تظهر آثار التمدن العظيم للعيان!!
وفي تلك الايام كانت العديد من المحلات السكنية في جنوب وغرب طهران تفتقد الي الماء الصالح للشرب. وقد وضع لكلّ مائة عائلة ما سورة ماء واحدة ليشربوا منها. وبلغ معدل الامية في عام 1976 (52.9%) بين من تتراوح اعمارهم بين السابعة ومافوق . وحينما فرّ الملك من ايران عام 1978م كان قد مضي علي ثورته البيضاء والاصلاحات المدعومة من قبل أميركا خمسة عشر عاماً. وخلال تلك المدة ورغم انتاج وبيع النفط وسائر الثروات الوطنية بشكل مسرف، ورغم دعم الدول الاجنبية للنظام، فإن ايران لم تفشل في تحقيق استقلالها وحسب، وانما كانت التبعية الاقتصادية والزراعية والصناعية تزداد يوماً بعد آخر، وكان التدهور الاقتصادي والفقر وضياع العدالة يزداد باطراد. اما من الناحية السياسية فقد حول الملك ايران الي اكثر بلدان العالم عمالة للغرب وخصوصاً أميركا.
ورغم الظروف الصعبة والمعقدة التي كان الإمام الخميني يمرُّ في منفاه، فإنه لم يكف عن الجهاد والوقوف بوجه النظام الملكي. وكان يبعث الأمل بالنصر المؤزر في النفوس من خلال خطاباته وبياناته. فقد كتب في 16 نيسان 1967 في بيان مخاطباً الحوزات العلمية: انني اطمئنكم أيها السادة المحترمون وأطمئن الشعب الايراني بأن النظام سوف يهزم. فإن اسلاف هذا النظام كانوا قد تلقوا الصفعة من الاسلام، وهؤلاء ايضاً سينالون نصيبهم. استقيموا ولا تستسلموا للظلم، ان هؤلاء احلون وانتم الباقون ... إنَّ هذه السيوف الصدئة سوف تعود الى اغمادها ... .
وفي ذلك اليوم كتب الإمام الخميني رسالة مفتوحة الى رئيس الوزراء (امير عباس هويدا) استعرض فيها ممارسات النظام المجرمة وحذّره من الوقوف الى جانب اسرائيل في مقابل الدول الإسلاميّة قائلاً: لا تعقدوا عهد الاخوة مع اسرائيل عدوة الإسلام والمسلمين، التي شردت اكثر من مليون مسلم. لا تسيئوا الي عواطف المسلمين، لا تطلقوا يد اسرائيل وعملائها الخونة في اسواق المسلمين اكثر من هذا، لا تعرضوا اقتصاد البلاد للخطر من اجل اسرائيل وعملائها. لا تضحوا بثقافتنا من اجل اهوائكم ... خافوا غضب الجبار، واحذروا سخط الشعب ... [إنَّ رَبَّك لبالمرصاد] .
غير أنَّ الشاه لم يكترث لتحذيرات الإمام الخميني.
ورغم ان البلدان الإسلاميّة كانت علي اعتاب حرب مع اسرائيل، كانت البضائع والسلع الإسرائيلية رائجة في السوق الإيرانية وتتمتع بدعم خاصٍ من النظام، فكانت انواع الفواكه والمواد الغذائية تعرض في الاسواق الايرانية بأسعار متدنية نافست المنتجات الداخلية وعرّضتها للبوار.
وفي 7 حزيران 1967 م اصدر الإمام فتواه الثورية بتحريم اي نوع من العلاقة التجارية والسياسية للدول الإسلاميّة مع اسرائيل، وحرّم شراء البضائع الاسرائيلية ، وذلك بمناسبة حرب الايام الستة بين العرب واسرائيل، وقد ألحقت الفتوى ضربة قوية بالعلاقات المتنامية بين نظام الشاه واسرائيل. كذلك مارس العلماء وطلبة العلوم الدينية في ايران، ضغوطاً ضد حكومة الشاه من خلال اصدار البيانات وتوزيع المنشورات، مما دفع النظام الي ترجمة انتقامه عملياً، وذلك بالهجوم على منزل الإمام الخميني في قم ومصادرة الكثير من الوثائق والكتب الخاصة به، ثم الهجوم على المدارس الإسلاميّة في المدينة وجمع آثار وصور الإمام الخميني، وخلال هذه الهجمات اُلقي القبض على نجل الإمام الخميني حجة الاسلام السيد احمد الخميني، وكذا حجة الاسلام الحاج الشيخ حسن الصانعي، والمرحوم آية الله الاسلامي (وكيل الإمام في الاستفتاءات الشرعية). فقد ادت جهودهم مع سائر انصار الإمام الخميني الثوريين الى إفشال مخططات وممارسات السافاك والنظام الملكي التي هدفت الى قطع المرتبات الشهرية الموزعة من قبل الإمام، والحؤول دون ارسال الحقوق الشرعيّة من قبل الجماهير الى مرجعهم.
وكان السيد احمد (نجل الإمام) قد تعرض قبل مدة من ذلك للاعتقال اثناء عودته من النجف، وذلك عند الحدود العراقية الايرانيّة بعد ان كان قد سافر من قم الى النجف لاستلام رسائل واوامر الإمام الخميني حول مواصلة النهضة وكيفية ادارة منزله في قم. وقد سيق بعد اعتقاله الى سجن (قزل قلعة) وذلك اوائل عام 1967م.
واستناداً الى الوثائق التاريخية التي تمَّ الحصول عليها من دوائر السافاك، فإن جهود منظمة الأمن تركزت في تلك الفترة على قطع الارتباط بين الإمام ومقلديه في ايران والحيلولة دون قيام الإمام بدفع المرتبات الشهرية الى طلبته في الحوزة العلمية بقم. وقد تظافرت وتواصلت في غضون ذلك جهود وكلاء الإمام الشرعيين في ايران من امثال ذوي السماحة: الاسلامي التربتي، والحاج الشيخ محمد صادق الطهراني (الكرباسچي) وآية الله البسنديدة (شقيق الإمام الخميني الاكبر) رغم التهديدات التي عرضهم النظام لها، ورغم تكرار اعتقالهم وابعادهم. كذلك ساهمت الجهود التي بذلها المسؤولون عن إدارة منزل الإمام في قم والذي اصبح مقراً لادارة النهضة ـ وكان يُدار من قبل نجل الإمام الخميني ـ في منع النظام من تحقيق اهدافه.
لقد كان السافاك يبدي حساسية كبرى تجاه النشاطات الهادفة الى احياء اسم الإمام الخميني وذكره وتنشيط دور منزله في قم، الى درجة دفعته الى وضع منزله تحت الرقابة المتواصلة عبر مجموعة من عناصره وبعض عناصر الشرطة التي كانت تراقب المنزل طوال ساعات النهار وقسماً من ساعات الليل، وتحول دون تردد المراجعين والمقلدين على المنزل. غير أنّ المراجعين والمقلدين كانوا يفدون على منزل الإمام في ساعات متأخره من الليل وذلك بعد ذهاب المأمورين، للحصول على الاجوبة والتوجيهات اللازمة.
في تلك الايام (حزيران 1967م) كان النظام يفكر في إعادة نفي الإمام الخميني مجدداً من النجف الى الهند إلا انه لم يكتب لمخططه النجاح نتيجة قيام العديد من مؤيدي الإمام والتيارات السياسية بمواجهته وفضحه داخل البلاد وخارجها.
وبمجيء حزب البعث (17 تموز 1968 م) الى السلطة في العراق تضاعفت الضغوط والعقبات امام نهضة الإمام الخميني، وذلك للطبيعة العدائية التي يكنها حزب البعث للحركات الإسلاميّة. غير ان الإمام لم يكف عن مواصلة النهضة، اذ منحته اقامته في النجف، ونهضة العالم الاسلامي بشأن قضية الحرب بين العرب واسرائيل، الفرصة لتوسيع نطاق جهاده المتمثل في احياء الاعتقاد الديني في عصر مظلومية الدين، والعثور على الهوية، واستعادة الامجاد السابقة وتحقيق وحدة الأمة الإسلامية وعدم انحساره في مواجهة الشاه.
ففي لقائه مع ممثل حركة فتح الفلسطينية في 11تشرين الاول 1968 م، اوضح الإمام الخميني آراءه حول مختلف المسائل التي تهمُّ العالم الاسلامي، وجهاد الشعب الفلسطيني، وأكد في ذلك اللقاء وجوب تخصيص جزء من مبالغ الزكاة للمجاهدين الفلسطينيين .
في اوائل عام 1969 م اشتدت الخلافات بين النظام الايراني ونظام حزب البعث الحاكم في العراق حول الحدود المائية المشتركة بين البلدين. وقد بادر النظام العراقي آنذاك الي ترحيل اعداد كبيرة من الايرانيين المقيمين في العراق في ظروف سيئة جداً، كما سعى جاهداً لاستغلال العداء بين الإمام الخميني والنظام الايراني. من جانب آخر كان شاه ايران يتحين الفرصة للعثور على ادنى مبرر للنيل من استقلال نهضة الإمام الخميني. لكنَّ الإمام وبحنكته المعهودة وقف بوجه الدسائس التي كان كلا النظامين يحوكانها. وقد قام آية الله السيد مصطفى الخميني ممثلاً عن والده بتسليم مذكرة احتجاج على ترحيل الطلبة والكسبة الايرانيين المقيمين في العراق، الى الرئيس العراقي أحمد حسن البكر وسائر المسؤولين ممن حضروا اللقاء، تضمنت رفض اي نوع من المصالحة والتنسيق بين الإمام الخميني والنظام العراقي.
في 21 آب 1969م قامت مجموعة من الصهاينة المتطرفين باحراق جانب من المسجد الاقصى. وعلى الفور اعلن الشاه الذي واجه ضغوطاً من الرأي العام، اعلن عن استعداده لتقبل نفقات تعمير المسجد، وذلك في محاولة للتخفيف من غضب المسلمين ضد اسرائيل. وفي هذه الاثناء اصدر الإمام الخميني بياناً فضح فيه مكائد الشاه واقترح في المقابل: ما دامت فلسطين محتلة، فعلى المسلمين ان لا يقوموا باعادة بناء المسجد الاقصى وترميمه، فليتركوا هذه الجريمة التي ارتكبتها الصهيونية ماثلة اما انظار المسلمين لتكون سبباً لدفعهم نحوتحرير فلسطين .
ان اربعة اعوام من التدريس وجهود التوعية التي مارسها الإمام الخميني استطاعت ان تغير وضع الحوزة الى حدّ ما، ففي عام 1969 اصبح لدى الإمام مخاطبين جدد من العراقيين واللبنانيين ومن سائر بلاد المسلمين ممن اتخذوا من نهضة الإمام الخميني اُسوة لهم، فضلاً عن الاعداد الكبيرة من المجاهدين داخل البلاد.
وفي مطلع عام 1970 م شرع الإمام بتدريس سلسلة بحوثه حول الحكومة الإسلاميّة أو(ولاية الفقيه)؛ وقد ادى نشر هذه المجموعة من الابحاث في كتاب تحت عنوان (ولاية الفقيه أو الحكومة الإسلاميّة) ـ في ايران والعراق ولبنان وفي موسم الحج ـ الى تفجير موجة جديدة منالحماس في صفوف المجاهدين. لقد عرض هذا الكتاب ـ وعلي لسان قائد الثورةـ ابعاد الجهاد وأهداف النهضة والمباني الفقهيّة والاصولية والعقلية للحكومة الإسلاميّة والمباحث النظرية التي تتناول اساليب الحكومة الإسلاميّة. في نيسان 1970 م نشرت الصحف الأميركية خبر وصول هيئة رفيعة المستوى من الرأسماليين الأمير كان برئاسة روكفلر الى ايران. وقد وصل هذا الوفد لتحري الطريقة التي يتمُّ من خلالها اعادة عائدات النفط الإيراني الى أميركا، فتلك العائدات كانت قد بدأت منذ ذلك العام بالتزايد بشكل جنوني، لذا صار لازماً معرفة سبل مشاركة الشركات الأميركية في هذه الغنيمة.
ورغم ان السافاك كان قد منع ـ منذ عدة اشهر ـ العديد من العلماء من انصار الإمام الخميني من ارتقاء المنبر، الا ان علماء الدين الملتزمين وبعد اطلاعهم على آراء الإمام حول مسألة الحكومة الإسلاميّة اندفعوا الى فضح مخططات الشاه ومعارضة تزايد النفوذ الأميركي في ايران. وكان آية الله السعيدي من اشدِّ مؤيدي الإمام معارضة لما كان يجري، مما عرضه الى الاعتقال في شهر نيسان 1970م، لم يمض علي اعتقاله اكثر من عشرة أيام حتى فارق الحياة نتيجة التعذيب الشديد الذي تعرض له في دهاليز سجن قزل قلعة علي ايدي السافاك.
وعلى اثر شهادته اصدر الإمام الخميني بياناً تأبينياً خلد فيه جهاد هذا الرجل مؤكداً من خلاله: إنَّ المرحوم السعيدي ليس وحده الذي سقط في سجنه معارضاً لهذا الوضع المؤسف وقد جاء في هذا البيان ايضاً: إنَّ الخبراء واصحاب رؤوس الاموال الأميركان هجموا على ايران، باعتبارهم من اكبر المستثمرين الاجانب، وذلك لتكريس أسر الشعب الايراني المظلوم ... ان أيّ اتفاق يبرم مع اصحاب رؤوس الاموال الأميركان وسائر المستعمرين يخالف ارادة الشعب واحكام الاسلام . وفي اواخر عام 1971 م تصاعدت وتيرة الخلافات بين نظام البعث العراقي ونظام الشاه الأمر الذي اسفر عن ترحيل الآلاف من ايرانيين المقيمين في العراق الى بلدهم. وبهذا الشأن ابرق الإمام الخميني الى الحكومة العراقية وندد بشدة بعملية التهجير تلك، واعلن عن عزمه علي مغادرة العراق استنكاراً لممارسات الحكومة العراقية. غير ان النظام الحاكم في بغداد منع الإمام من الخروج تخوفاً من النتائج التي قد تترتب علي خروجه.
من جانب آخر وتزامناً مع زيادة انتاج النفط وارتفاع اسعاره في سنة 1971 م وما بعد، احس الشاه بقدرة اكبر، فضاعف من وحشيته في قمع واضطهاد المعارضين، وخاض سباقاً جنونياً في شراء التجهيزات العسكرية والسلع والبضائع الاستهلاكية الأميركية، وسرّع من ايجاد القواعد العسكرية الأميركية العديدة داخل البلاد، وزاد من مستوي العلاقات التجارية والعسكرية مع اسرائيل، وحمّل الشعب الايراني نفقات هائلة لإقامة الاحتفالات الاسطورية في ذكرى مرور الفين وخمسمائة عام على نشوء الملكية في ايران والتي كان يحضرها العديد من قادة ورؤساء دول العالم. وقد جعل الشاه من هذه الاحتفالات استعراضاً للقدرة والثبات اللذين يتمتع بهما النظام الملكي.
وقد ندد الإمام الخميني ـ وعبر بيانات عديدة ـ بهذه الاحتفالات المفروضة على الشعب، وكشف النقاب عن تخلف البلاد والحقائق المرّة التي حكمت المجتمع الايراني. وخلال الحرب العربية الاسرائيلية الرابعة، وبينما كان الملك يمثل الحامي المقتدر لاسرائيل، طالب الإمام الخميني ـ عبر بيان اصدره في تشرين الثاني 1973 م ـ الشعب الايراني بالوقوف في وجه اعتداءات الكيان الصهيوني، كما افتى في هذا البيان ايضاً بوجوب دعم الشعوب الإسلاميّة للمجاهدين الفلسطينيين مادياً ومعنوياً، وذلك عبر التبرع بالدم وارسال الاسلحة والذخائر والمواد الغذائية الى المجاهدين المسلمين. كما أكدّ سماحته في بيانٍ آخر على ان: الأمة الإسلاميّة لن ترى يوماً سعيداً ما لم تجتث جرثومة الفساد هذه (اسرائيل) من جذورها، وان ايران لن تشم نسيم الحرية ما دامت مبتلاة بهذه العائلة (البهلوية) الفاسدة.
وفي اواسط شهر آذار 1974م، تجلت ديكتاتورية الملك في ذروتها، حينما اعلن عن تشكيل حزب البلاط رستاخيز (ويعني البعث!) واعتمد سياسة الحزب الواحد. فقد اعلن عبر حديث تلفزيوني بان على جميع ابناء الشعب الايراني ان ينسبوا الى هذا الحزب، وعلى المعارضين ان يحصلوا علي جوازات سفرٍ ويغادروا البلاد باسرع وقت.
وعلى الفور اصدر الإمام الخميني فتواه التي جاء فيها:
نظراً لمخالفة هذا الحزب للاسلام ومصالح الشعب الايراني المسلم، يحرم على جميع ابناء الشعب الانتماء اليه، وان الانتماء اليه يعدُّ إعانة للظالم ومشاركة في القضاء على المسلمين، كما ان معارضته تعدّ من ابرز مصاديق النهي عن المنكر.
كانت فتوى الإمام الخميني وبعض علماء الاسلام فاعلة ومؤثرة. ورغم الاعلام المكثف الذي كرسه النظام للحث على تقوية الحزب، الا ان النظام اعلن عن هزيمته رسمياً بحلّه الحزب بعد عدّة سنوات.
كتب الإمام الخميني في جانب آخر من بيانه هذا يقول:
وانا في غربتي هذه، يعصرني الالم والحسرة على الوضع المؤسف الذي يعيشه الشعب الايراني، وكم هو جميل ان اكون في هذه الظروف الحساسة بين أبناء الشعب، اساهم معهم في هذا الجهاد المقدس من اجل انقاذ الاسلام وإيران.
وفي عام 1975 وفي ذكرى انتفاضة حزيران، شهدت الفيضية مجدداً قيام الطلاب الثوريين وانطلقت صرخات يعيش الخميني، الموت لسلالة البهلوي لترن في أرجاء المدرسة على مدى يومين. ولما كانت الحركات والمنظمات الفدائيد قد تلاشت، وكانت الشخصيات الدينية والسياسية المجاهدة ترزح في سجون النظام، فقد مثلث هذه الحركة الثورية صدمة للملك والسافاك، فانطلقت قوات الشرطة لمحاصرة المدرسة الفيضية ثم انهالت على طلبة العلوم الدينية بالضرب والشتم بصورة وحشية وألقت القبض على جميع المعترضين واقتادتهم الى السجون.
وفي بيان اصدره الإمام الخميني بهذه المناسبة، اعرب
عن تفاؤله لهذا الحادث قائلاً: رغم كل المصائب فإنَّ صحوة الشعب تبعث علي الأمل. ان نهوض الجامعيين في مختلف انحاء إيران ـ طبقاً لاعتراف الملك نفسه ـ والعلماء الاعلام وطلاب المدارس ومختلف فئات الشعب، ورغم كل الضغوط والتجبر، مقدمة لنيل الحرية والانعتاق من قيد الاستعمار.
وفي كلمة بعثها الى المؤتمر السنوي للاتحادات الإسلاميّة للجامعيين الدارسين في أميركا وكندا، في 24 ايلول 1975م، كتب سماحته: ان نقطة الامل المضيئة التي اراها في اواخر عمري، هي هذا الوعي والصحوة التي يتحلى بها الجيل الشاب. ونهضة المثقفين التي تتنامى بشكل سريع والتي ستحقق أهدافها ـ بأذن الله تعالي ـ في قطع ايادي الاجانب وبسط العدالة الإسلامّية. امعاناً في سياساته بمحاربة الدين، غيّر الملك في آذار عام 1975 بكل وقاحة، التاريخ الرسمي المعتمد في البلاد، من التاريخ الهجري الى التاريخ الملكي لملوك الهخامنشة. وفي ردِّ حاسم افتى الإمام الخميني بحرمة استخدام التاريخ الملكي. وكما استقبلت الجماهير فتوى الإمام في تحريم الانتماء الى حزب (رستاخيز)، حظيت فتواه في تحريم استخدام
التاريخ الملكي الموهوم باستقبال جماهير كبير، وفضحت الحادثتان النظام الملكي، مما دفعتاه الي التراجع عنه عام
1987 وإلغاء استخدام التاريخ الملكي.
من جانب آخر، انهت اتفاقية الجزائر عام 1975 م التي وقعت بين الشاه وصدام حسين (نائب رئيس الجمهورية العراقية آنذاك) الخلافات بين البلدين بشكل مؤقت، فقد رأت أميركا ان المنازعات والمناوشات بين بغداد وطهران وقتئذ أمرُ يعرض الاستقرار في المنطقة وفي الخليج الفارسي الي الخطر. لذا فقد تمّ عقد تلك الاتفاقية بشكل رسمي بتدخل الرئيس الجزائري والرئيس المصري انور السادات الصديق الحميم لشاه ايران.
أدت اجواء التآلف بين حكام بغداد وطهران الي مضاعفة العراقيل امام مسير جهاد الإمام الخميني، غير ان هذه الموانع لم تتمكن من ثنيه عن مواصلة جهاده الذي ابتدأه.
وفي تلك الايام بعث السفير الايراني في العراق تقريراً وجهه الى قادة النظام الملكي يقول فيه: ان آية الله الخميني، لم يكف عن ممارسة نشاطاته في العراق، فهو ناشط جداً في العمل على مواجهة النظام، يرجى اصدار أوامركم في هذا الخصوص لتحديد موقفنا تجاهه.
وفي معرض جوابه على هذا التقرير كتب الملك ـ بغضب ـ: لقد قلت مراراً لابد من خنق هذا الصوتغافلاً عن ان التقدير الالهي اراد مصيراً آخراً لرسالة الإمام الخميني يُريدونَ لِيُطفئوا نُورَ الله بأََفواهِهم والله مُتِمُّ نُورِه .
في عام 1976 وصل الديمقراطيون الى البيت الابيض الأميركي، وضاعت سديً المساهمات المالية التي قدمها شاه ايران الى الجمهوريين، وكان كارتر قد انتصر من خلال شعارات حقوق الانسان، والحد من تصدير الاسلحة الى الخارج. وواضح أنَّ هذه الشعارات انما رفعت لاجل الحدِّ من المشاعر العدائية تجاه أميركا التي كانت تسود البلدان الاخرى كايران مثلاً، والتعتيم على الازمة الاقتصادية التي كانت تعصف بأميركا، وزيادة الضغط على الاتحاد السوفيتي (السابق) للحصول على امتيازات اكثر في مفاوضات الحدِّ من الاسلحة النووية التي كانت جارية آنذاك بين الطرفين.
بعد اتضاح سياسات الديمقراطيين في أميركا، قام الملك بالاعلان عن سياسة الفضاء السياسي المفتوح! واقدم على اجراء تغييرات وتبديلات في بيادقه.
وتشير الوثائق التي نشرت بعد احتلال وكر التجسس الأميركي (السفارة الأميركية في طهران) بأن السياسة الأميركية فيما يخصُّ ايران ـ التي كانت تضع اطارها العام وزارة الخارجية الأميركية ووكالة المخابرات الأميركية CIA، وكانت تبلغ للسفارة في طهران ـ لم تتغير، فأميركا تدعم الملك ونظامه بالكامل، وان الديمقراطيين ايضاً يرون ـ كما هو الحال في السابق ـ بأنَّ الملك يمثل عنصراً اساسياً لحفظ المصالح الأميركية في منطقة الخليج الفارسي، لذا استثنيت إيران من قانون حظر تصدير الاسلحة.
وقد اوضح سفركارتر وزوجته الى طهران والحديث الذي ادلى به والتصريحات التي اعلن من خلالها عن الدعم المطلق الذي يوفره البيت الابيض للملك، بأنَّ الفضاء السياسي المفتوح انما كان حركة مسرحية عابرة.
هذا و تمكن الإمام الخميني ـ الذي كان يتابع التحولات والاحداث الجارية في إيران والعالم بدقة متناهية ـ من اغتنام الفرصة التي اتيحت له محققاً الاستفادة القصوى منها. فقد اعلن في بيان اصدره في آب 1977: نظراً للاوضاع الداخلية والخارجية، وانتشار انباء الجرائم التي يرتكبها النظام الحاكم في المحافل الدولية والصحافة الاجنبية، فإن الفرصة مواتية الآن للتجمعات العلمية والثقافية والوطنيين والجامعيين الدارسين في الخارج والداخل، والاتحادات الإسلاميّة اينما كانت، للمبادرة بالانتفاضةـ دون خوف ـ واغتنام هذه الفرصة .
وجاء في جانب آخر من البيان ذاته: ان التجاوز على حقوق مئات الملايين من المسلمين، وتحكيم حفنة من الاوباش على مقداراتهم، واتاحة الفرصة للنظام الايراني غير الشرعي، وللكيان الاسرائيلي الخاوي ليغتصبا حقوق المسلمين ويصادرا الحريات، ويتعاملا مع الناس معاملة وحشية، كلها جرائم ستثبت في سجل الرؤساء الأميركيين .
تحولت شهادة آية الله السيد مصطفى الخميني في شهر تشرين الاول 1977م والمراسم التأبينية المهيبة التي اقيمت
له في إيران، الى نقطة انطلاقٍ لتحرك الحوزات العلمية
مجدداً، ونهضة المجتمع الايراني المتدين. وقد عبر الإمام الخميني عن تلك الحادثة بـ الألطاف الإلهيّة الخفية ـ الأمر الذي أثار الدهشة والاعجاب. وقد حاول النظام الملكي حينها الانتقام من الإمام بنشر مقالة موهنة في صحيفة اطلاعات. غير ان السحر انقلب على الساحر، اذ فجرت المقالة انتفاضة التاسع من كانون الثاني عام 1978م التي استشهد فيها جمع من الطلاب الثوريين. ومرة اخرى اشعلت قم فتيل النهضة، وما هي إلاّ فترة وجيزة ـ وفي ظروف اختلفت تماماً عن الظروف التي انطلقت فيها انتفاضة حزيران 1963 ـ حتي تضافرت وتكاتفت حركة الجماهير في مختلف انحاء البلاد. حيث ادت إقامة مراسم العزاء المتتالية في اليوم الثالث والسابع والاربعين من سقوط الشهداء، الى سريان لهيب الثورة الي مدن البلاد الاخرى كتبريز ويزد وجهرم وشيراز واصفهان وطهران. وطوال هذه الفترة كانت البيانات المتواصله الصدور من الإمام الخميني، واشرطة تسجيل احاديثه وخطاباته ـ والتي كان يدعوفيها الجماهير الى الثبات ومواصلة النهضة حتى القضاء على النظام الملكي وتشكيل الحكومة الإسلاميّة ـ تستنسخ وتُكَثر على ايدي مؤيديه وانصاره ويتم توزيعها في جميع انحاء البلاد.
ومع كل الجرائم الوحشية التي ارتكبها النظام الملكي، لم يتمكن من اخماد لهيب الثورة المستعرة. وكانت احابيله
ودسائسه السياسية ومناوراته العسكرية تبوء بالفشل دون أن يكون لها دور في تهدئة الغضب الجماهيري، بفعل بيانات الإمام التي كانت تكشف الخفايا وترشد الجماهير الى اتخاذ الخطوات اللازمة في مسيرة تحركهم.
ولمّا لم ينفع تنصيب احد التكنوقراطيين المتغربين (جمشيد آموزكار) رئيساً للوزراء بدلاً عن (هويدا) ـ الذي عمل في خدمة الملك ثلاثة عشر عاماً ـ في ايجاد حلٍ للمعضلة التي تعصب بالنظام، استبدل الملك آموزكار بأحد اعضاء المحافل الماسونية الاستعمارية في إيران، فجاء (جعفر شريف امامي) رافعاً شعار حكومة المصالحة الوطنية. إلاّ أن دسائسه ومساعيه في التفاوض مع شريعتمداري ـ الذي لمع نجمه مجدداً باعتباره احد القادة الدينيين، وحرص النظام علي تأييده ودعمه ـ لم تتمكن من ايقاف التحرك الجماهيري.
وفي عهد حكومته (شريف إمامي) ـ الثامن من ايلول ـارتكبت المذبحة الجماعية الوحشية بحق الجماهير العزل في ميدان جالة (الشهداء حالياً) بطهران. واعلنت إثر ذلك الاحكام العرفية في كل من طهران واحدى عشرة محافظة من محافظات البلاد الكبرى لأجل غير مسمى.
غير أنَّ الجماهير لم تعبأ بالاحكام العرفية، مستلهمة شجاعتها من بيانات الإمام الخميني، واستمرت التظاهرات ليل نهار، دون انقطاع، بل كانت في اتساع مستمر. إذ كانت نداءات (الله اكبر)، (الموت للشاه) (يعيش الخميني) تسمع على مدار الساعة ويرافقها احياناً ازيز الرصاص الذي كان ينطلق من كل جهة.
لقد قاد الإمام الخميني نهضته منذ البدء مستلهماً قوله تعالى: إنَّ الله يُغَيِّّرُ ما بِقَومٍ حَتّى يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهمِ ومرجّحاً الثورة الثقافية والتحول الاجتماعي بواسطة الجماهير، علي الثورة السياسية، وكان سماحته يعتقد في تلك الظروف التي كانت تمر بها ايران بعدم جدوى النضال من خلال الاحزاب او البرلمانات، وكذا بعدم جدوى الكفاح المسلح إذ ما جرّد من مشاركة الجماهير، ودعمهم. وكان يرى التعبئة العسكرية والجهاد العام المسلح آخر السبل المتبقية اذا ما فكرت أميركا بالانقلاب العسكري.
كانت المساجد والمراكز الدينية بمثابة المعاقل الاساسية للثورة الإسلاميّة والمنطلق لتحرك الجماهير وتجمعاتها.
وكانت الشعارات التي ترددها الجماهير ومزيجاً من التعاليم الدينية وارشادات الإمام الخميني. وخلال عامي 1977و1978م، عندما بلغت الثورة الإسلاميّة ذروتها عادت الاحزاب والفئات السياسية للظهور من جديد وباعداد كبيرة جداً، وقاعدة ضئيلة لاتذكر، مما جعلها تعيش في جذبٍ حرمها امكانية التأثير في مجرى الاحداث تماماً فاضطرها تعالى مجاراة الحركة الجماهيرية الواسعة.
ويومها نشطت الحركات والفصائل الجهادية المسلحة، التي تمَّ تشكيلها بوحي من الاهداف الإسلاميّة واعتقادات
راسخة بنهج الإمام الخميني. فكانت نشاطاتها تعبّر عن نهج جهادي مستقل، بل تمثل حركة حماية ودعم لثورة الشعب العارمة. وكان من الاساليب الموفقة التي اتبعها الإمام الخميني في الجهاد ضد نظام الشاه، دعوته الجماهير الى الاضرابات
العامة وتوسيع مدارها. فقد شملت الاضرابات في الاشهر الاخيرة من الثورة مختلف اركان النظام من وزارات ودوائر ومراكز عسكرية حتى امتد الأمر الى عمال وموظفي شركة النفط الوطنية والبنوك ومراكز الدولة الحساسة، الأمر الذي وجّه الضربة القاضية الى جسد النظام.