عندما نتحدث عن الامام الخميني (قدس سره)، فان الامام كان يتحلى بخصال وسمات شخصية فضلا ً عن قيادته ومواقفه. فهو فقيه كبير وفيلسوف عظيم وأحد كبار العرفاء، ومفكر اسلامي فذّ وخلاّق.. واذا ما كان سماحته يتحلى بخصال وسمات شخصية كثيرة، فان مواقفه وقيادته تبعث على الاعجاب حقا ً. وأن ما حققه الامام في حياة الناس والأمة والتاريخ المعاصر، بل والانسانية جمعاء، وأرسى دعائمه للمستقبل، هو الآخر كثير ايضا ً. غير أني سأكتفي هنا بالاشارة الى جانبين، الاول هو أننا ننعت الامام بقائد الثورة، أي أنه كان قائدا ً للثورة الاسلامية الشعبية الهادرة التي اندلعت في ايران وأدّت في النهاية الى إسقاط النظام الشاهنشاهي الطاغوتي، النظام الذي كان يعتبر دركي أميركا في الخليج الفارسي والحليف الاستراتيجي لإسرائيل، وان سمته الأخرى هي أنه مؤسس الجمهورية الاسلامية في ايران.
لقد كان قائدا ً لثورة عمل على تفجيرها، وكان أول الذين طالتهم تبعاتها وتحدياتها، حيث تم تهديد أمنه الشخصي ومهاجمة منزله ونهب مكتبته واعتقاله، حتى أنه كان من الممكن أن يساق الى الاعدام. ومن ثم فترة نفيه الطويلة واستشهاد نجله السيد مصطفى.. وطوال سنوات الجهاد والثورة تم اعدام العديد من تلامذته واتباعه وانصاره الأوفياء وسجنهم و نفيهم الى خارج المدن.. فهو الذي زرع بذور هذه الثورة وقادها ومضى بها قدما ً، حتى جاءت عودته الى ارض الوطن في تلك اللحظة الانسانية والمعنوية والتاريخية المضيئة التي جسدت ذروة عزمه وشجاعته.. العودة التي بدأت باصرار من الامام بالتوجه الى طهران رغم مخاطر احتمال استهداف طائرته التي كانت تقل سماحته من باريس. غير أن هذا القائد المقدام واصل معركته مرحبا ً بالموت وبكل المخاطر والتهديدات، وفجّر الثورة بتوفيق من الله سبحانه وتعالى وحقق لها النصر.
وفي الحقيقة أن تطلعات الامام (رضوان الله تعالى عليه) في إقامة النظام الاسلامي، كانت نابعة من الخلفية الفكرية والعقائدية، وسأكتفي بالقول أن الأصل في الفكر الاسلامي – وكما يذكر الامام – وجود الحكومة والنظام السياسي والسلطة الحاكمة، ليس بمعنى التركيبة الوزارية وإنما بمعنى القوة، أو على حد ما كان يصطلح عليه يومئذ: أن وجود الأمير او الامام او الخليفة حاجة طبيعية وفطرية للمجتمع الانساني. وهو أمر بديهي ليس بحاجة الى استدلال.. ان حاجة المجتمع الى الحكومة أمر بديهي في الفكر الاسلامي وفي فكر الامام الخميني لا يحتاج الى استدلال. نعم الذي هو بحاجة الى بحث واستدلال طبيعة وماهية وهوية الحكومة وإطار النظام الحاكم في المجتمع. فهذه مسألة نظرية بحاجة الى بحث واستدلال والاستعانة بالتجارب الانسانية والأديان السماوية والفلسفة الانسانية الى غير ذلك. أما مبدأ وجود الحكومة والحاجة الى إقامتها لإدارة شؤون المجتمع، فهو مسألة طبيعية وفطرية وبديهية في مختلف مراحل التاريخ البشري، إذ أنه من غير الممكن تنظيم شؤون المجتمع بدون حكومة ونظام حاكم.
ولذلك وبمجرد أن انتصرت الثورة في ايران في شباط / فبراير 1979 م، ومنذ اللحظات الاولى بدأت عملية بناء الدولة، وكان الامام وانصارة وتلامذته والشخصيات البارزة في الثورة، كانوا جاهزين وناقشوا هذه الافكار كثيرا ً، ذلك أن ثمة مسودات كانت جاهزة حول التركيبة النظرية للحكومة والإطار والهوية والماهية، إذ أنهم كانوا قد اعدوا كل ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو أنهم كانوا مستعدين لذلك، أما حكمة الامام وتدبيره وإتقانه فقد تجلت منذ اللحظات الأولى... إذ اصدر الامام اوامره، وساعده الأعون عليها، والشعب قبل بها.
لماذا كان الشعب يوافق على الفور؟ نظراً للنفوذ الروحي والمعنوي الذي كان يتمتع به الامام... الامام لم يشهر السيف بوجه الشعب. كلا. الامام كان يتحدث الى الشعب ويعلن عن مواقفه وتوجهاته، وكان الشعب يرحب بكل ما يقرره الامام بمختلف فئاته وعلى نطاق واسع، وهنا تتجلى عظمة الثورة الاسلامية في ايران. فاذا كان ثمة من يتحدث عن القاعدة الشعبية، فهذا هو مفهوم السمة الشعبية.
ان القوة الرئيسة والانجاز الاكبر للامام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) يتجلى في تأسيس حكومة عصرية تجمع بين التراث والحداثة. حكومة تقف في مواجهة كل المخاطر والتحديات، وتلبي متطلبات وطموحات الشعب الايراني. وقد جسد سماحته نموذجا ً بارزا ً في هذا المجال.
وكان الامام الداعية الدائم للوحدة والتقريب والتعاون والتضامن والتكامل بين المسلمين، بل وبين المستضعفين – في نطاق اوسع من وحدة المسلمين -، وكان يتحدث دائماً عن الجامع الابراهيمي بين الاديان السماوية.. كان الامام صادقا ً في كل هذه التوجهات ولم تستطع أي من الدسائس والمؤامرات أن تثنيه عما كان يؤمن به ويسعى اليه في هذا المجال.
* مقتطفات من خطاب السيد حسن نصر الله الامين العام لحزب الله ألقاه في الذكرى السنوية الثالثة والشعرين لرحيل الامام الخميني في بيروت.