السبيل الى الوحدة السياسية للعالم الاسلامي في فكر الامام الخميني(رض)

الكاتب: محمد اكرم عارفي

المقدمة
كان طرح فكرة "وحدة العالم الاسلامي" من الاهتمامات الفكرية القديمة والاساسية للامام والتي لم يغفل عنها ولو للحظة طيلة عهد نشاطه الاجتماعي-السياسي سواء قبل انتصار الثورة الاسلامية أم بعده . إن الوفاء الصادق للإمام  لـ "الوحدة" لم يحوله  الى ابرز شخصية ثورية في العالم الاسلامي فحسب ،بل إنه استطاع ان يحتل مكانة رفيعة للغاية بين النحل والفرق الاسلامية . ولم يقع الامام أبداً في طرح شعار"الوحدة"في التعميمات والنظرة السطحية بل قدم ايضاحات مفصلة بشكل علمي وفني في غاية الدقة من خلال دراسة الابعاد المختلفة للوحدة في القسمين النظري والعملي.
وقد تم تنظيم طرح هذا المقال في قسمين رئيسين حيث يبرز كل قسم مرحلة خاصة من مسار تنفيذ مشروع الوحدة: المرحلة الاولى هي المرحلة الثقافية- الفكرية ؛المرحلة الثانية ،الحركة السياسية –العملية . ولكل من هذين القسمين فروع عديدة تحدد الاساليب العملية للحركتين المذكورتين . ومن المؤمل ان نستطيع عبر دراسة هذه النقاط ان نقدم صورة تقريبية عن الحل الذي طرحه الامام.


استراتيجية الوحدة
تركزت الاستراتيجية الكفاحية للامام من الناحية الاصولية باتجاه ايجاد المحيط والظروف اللازمة لتحقق الوحدة والتضامن في العالم الاسلامي على محورين رئيسين : الاول "الحركة الفكرية-الثقافية" ،الثاني "الحركة السياسية-العملية" . وتتقدم الحركة الفكرية-الثقافية التي ذكرها الامام بتعبيرات من مثل "التحول الداخلي"،"اليقظة القلبية" و"العودة الى الهوية الاصيلة"، على الحركة السياسية-العملية. واعتبر الامام "التعليم والتربية" السياسيين الاساس للحركة السياسية آخذاً بنظر الاعتبار الترتيب المنطقي لمراحل الكفاح وإلقاء المسؤولية الاولى على لشعب في تحقيق وتوسيع مهمة "الدعوة"و"التعليم".
وسوف ندرس الحل العملي في فكر الامام في هذين القسمين حسب الترتيب .

 

أ: الحركة الفكرية-الثقافية

   استناداَ الى فكر الامام،فإن ايجاد التحول في المجتمعات الاسلامية وإنقاذها من حالة التشتت ليسا موضوعاً يمكن تحقيقه دون وضع اساس لبرنامج فكري شامل ومتجذر ؛ ذلك لأن الوضع الحالي للعالم الاسلامي سببه عوامل مختلفة مثل الانحطاط الفكري والعقيدي للمسلمين وتسلط القوى الاستعمارية والانظمة الدكتاتورية عليها والتي تعمل على مسخ الهوية الحقيقية للعالم الاسلامي وكذلك نهب مواردها . ولايمكن الخلاص من الوضع الحالي والوصول الى الوضع المنشود الا بإزالة جذور الإنحطاط حيث يكشف ذلك بدوره عن ضرورة التعبئة الشاملة للشعوب والحكومات الاسلامية تحت استراتيجية محددة وشاملة. وبناء على ذلك فإن العالم الاسلامي يجب ان يضع في مقدمة برنامجه العودة الى الاصالة التاريخية والثقافية باعتبارها مجموعة واحدة ذات خلفيات تاريخية ،ثقافية وسياسية مشتركة وان يحدد مقومات الهوية الدينية والوطنية بشكل جيد ويجعلها ذاتية.
ومن وجهة نظر الامام الخميني فإن نمو الحركة الفكرية-الثقافية التي تؤدي اخيراً الى ظهور القناعات المشتركة على المستوى العام يمكن التنبؤ بها في خلال مرحلتين حيث ستتولى في كلتا المرحلتين النخب الدينية والوطنية (العلماء والمثقفون) مسؤولية ريادة الحركة وتنسيقها  .


المرحلة الاولى: إيجاد النظام الفكري- الثقافي
من الضروري للغاية في موضوع تنظيم تيارعام وشامل ،وجود العلاقات الذهنية والمعنوية المتينة بين القوى المشاركة بحيث يكون بإمكانها توجيهها باتجاه اهداف محددة . والحركات الجماعية لا يمكن ان تنتصر من دون الاستناد الى نظام فكري متماسك وخلاق يخلق قيماً وقناعات وأنظمة واحدة ؛ وكان الامام يدرك بشكل جيد الفراغ الفكري-الثقافي السائد في المجتمعات الاسلامية المعاصرة من خلال الايمان بمثل هذا الامر .ولذلك فقد وضع في النجف اساس نظام فكري –سياسي وقدم في الحوزة العلمية ؛هذا المركز الفكري للعالم الاسلامي ،نظرية "الحكومة الاسلامية" على اساس الاسلام السياسي والثوري.
وقد كان النظام الفكري للامام الخميني قد تشكل من ثلاثة مفاهيم اساسية :"الاسلام"،"الاستقلال" و"الحرية" .وفي الحقيقة فإن هذه المفاهيم الثلاثة تعدّ المعبّرة عن علاج كل مشاكل العالم الاسلامي في الماضي والحاضر . واستعادة هذه المفاهيم الثلاثة تهيء إمكانية اعادة بناء الهوية المنسية والمدمَّرة للشعوب الاسلامية وسوف تفتح أمام البلدان نافذة باتجاه العلاقات الودية المتبادلة. ذلك لأن الامام الخميني يرى أن الازمة الرئيسة سببها ابتعاد الحكومات والشعوب المسلمة عن تعاليم الاسلام ووقوع المسلمين تحت هيمنة القوى الغربية والشرقية وكذلك ممارسة الاستبداد من قبل الانظمة الدكتاتورية والعميلة.


المرحلة الثانية: تعميم النظام الفكري وتعميقه وايجاد القناعات الشمولية
كما مرت الاشارة،فإن النظام الفكري-الثقافي وخلق القناعات الشمولية ، يعتبران اول خطوة باتجاه تضامن المسلمين وظهور نهضة الاسلام العالمية . ولكن التأثير المطلوب لـ"النظام الفكري" في ايجاد القناعات والقيم المشتركة لايمكن توقعه الا إذا أخذ مكانته بشكل جيد بين الشعوب ومارس التأثير الى حد ما على الرأي العام . ذلك لأن التوحد الذي يؤدي في النهاية الى الوحدة والتضامن على مستوى الشعوب لايمكن أن يتحقق إلا إذا تحقق أولاً جانب فكري وذهني على المستوى المطلوب .وأن تترسخ ثانياً العلاقات الاجتماعية المتبادلة . وأن تكون – ثالثاً- المصالح الاسلامية قد تشكلت.ومن جهة أخرى فإن هذه الظروف الزمانية سوف تتحقق على مستوى المجتمع عندما تكون مرحلة " التوسيع والتعميق" قد تحققت بالشكل المطلوب؛ فبالـ"التوسيع والتعميق" وحدهما أو بـ"الإعلام والتعليمات" على حد تعبير الامام يمكن الحصول على النتائج المذكورة.
ويرى الامام ان توسيع النظام الفكري-الثقافي ، مرتبط بعناصر ومصادر عدة يكمل كل منها في موقعه قسماً من هذا المسار.ومن أهم العناصر والمصادر المؤثرة في إكمال مسار تعميق المصادر البشرية الفاعلة وكذلك الارضيات الاجتماعية الاداة المناسبة لإرسال البلاغ حيث يوجِد مجموع كل ذلك شبكة إعلامية وتعليمية مؤثرة . و يلفت الإنتباه في هذه الشبكة الإعلامية التعليمية عاملان خاصان أكثر من العوامل الأخرى :القوى البشرية الفاعلة والقواعد التعليمية الإعلامية.
1- يطرح تفعيل النخب الدينية والوطنية على ساحة عملية توسيع النظام الفكري-الثقافي ،ضرورة التواجد الفاعل للنخب الدينية والوطنية في ساحة النشاطات الفكرية والإعلامية. وتتولى النخب الدينية دور القيادة في مجال تعميق الفكر الديني ،والنخب الوطنية ( المثقفون الملتزمون) في مجال تعميق الثقافة الوطنية .
2- توسيع وترسيخ القواعد الإعلامية والعلاقات الإجتماعية : سوف توظف النخب الدينية والوطنية التي تتولى مسؤولية تنفيذ مشروع (التعميم والتعميق) ،كل الامكانيات والموارد المتوفرة لنمو المستوى الفكري للشعب وتوسيع وتمتين العلاقات الاجتماعية المتبادلة بين الشعوب. ووجهة نظر الأمام حول توظيف الامكانيات والارضيات الإعلامية ، تقدمية وشاملة للغاية. وهو يقترح الاسلوب المتجاوز للحدود التقليدية والحديثة في عملية الإعلام وتعميق القناعات الدينية –الوطنية خلافاً للتيارين "التقليدي" و"الحديث" في مجتمعه . ومن بين كل هذه التيارات ، تحظى القواعد التقليدية للإعلام والإقناع بأهمية أكبر بسبب النفوذ والتمتع بالمكانة الشعبية وكذلك الهيمنة القديمة والتقليدية للنخب الدينية عليها وتحمل الاضرار بسبب عدم وجودها في ظروف عهد طفولة النهضة الفكرية الإسلامية.
ومن بين الإمكانيات والأساليب التقليدية المستخدمة في عملية الإقناع وتعميق الفكر ، إقامة شعائر"الجمعة" و"الجماعات" على المستوى الوطني و"الحج" ،"يوم القدس" و"اسبوع الوحدة" على المستوى الدولي حيث تحظى باهتمام الامام أكثر من غيرها . ويصرح الإمام بشأن الدور البارز للجمعة والجماعات والحج في عملية الإقناع ثم إيجاد الحركات السياسية –العملية ،قائلاً:
"... لقد هيأ الإسلام مثل هذا النوع من التجمعات كي يتم توظيفها دينياً ، وتتعزز عواطف الأخوة والتعاون بين الأفراد ، وتكتسب المزيد من النمو الفكري ، ويجد(المسلمون) الحلول لمشاكلهم السياسية والاجتماعية ويعمدوا بعد ذلك الى الجهاد والسعي الجماعيين ." ثم يضيف قائلاً:" لو أنهم اجتمعوا كل يوم جمعة واستحضروا مشاكل المسلمين العامة وقاموا بحلها أو قرروا حلها لما بلغ الأمر هذا المبلغ . علينا اليوم ان ننظم هذه الاجتماعات بجدية ونوظفها للإعلام والتعليمات؛ وبذلك تتسع النهضة العقيدية والسياسية للإسلام وتتصاعد."(ولايت فقيه ص132)

 


ب: الحركة السياسية-العلمية
   بعد توسيع النشاطات الفكرية-الثقافية المنظمة والتي تم خلالها تحديد مسار الكفاح وهدفه بشكل جيد وتشكّل التضامن المتعدد الجوانب في المجتمعات الى حد ما وبعد أن أصبح الانسان المسلم واعياً إلى حد ما بمكانته الانسانية والفردية وهويته الدينية والوطنية ، فإن الوقت يحل تدريجياً -على اساس استراتيجية الامام الخميني- لبدء المرحلة الثانية من الكفاح أي النشاطات السياسية-العملية. وقد طرحت في مرحلة الكفاح السياسي-العملي مراحل عديدة لأسلوب الكفاح في فكر الإمام ،حيث تمكن دراستها بشكل عام على صعيدين: الحكومات والشعوب.   


الصعيد الاول: الحكومات
تم تصميم الاساليب الكفاحية للإمام الخميني من الناحية الأصولية، مع الأخذ بنظر الاعتبار الحقائق الملموسة للمجتمعات الإسلامية. ولذلك فإن السعي على صعيد الحكومات يشكل اتجاهه العملي الاول وذلك بلحاظ أن الإمام كان على علم تام بالدور المصيري للحكومات في اتخاذ القرارات الجماعية . ويرى الإمام أن اقصر الطرق الى تحقيق"الوحدة الإسلامية" يكمن في الإقدام الإرادي لرؤساء البلدان الإسلامية ،ذلك لأن رؤساء البلدان الإسلامية يمتلكون كافة الإمكانيات والأدوات القانونية والتنفيذية اللازمة لتأسيس دولة الاسلام المتحدة بحيث إنهم إذا تدخلوا بشكل جاد ورسمي فسوف لاتكون هنالك أية مشكلة أمام إقدامهم الجماعي . وهذا التحليل الموضوعي والمتفائل في نفس الوقت للإمام يدفعه الى ان يدعو من خلال الإستعانة بدعوة عامة، جميعَ رؤساء البلدان الإسلامية إلى تأسيس وحدة شاملة :" إن موقفنا هو أن تبادر الحكومات قبل أن تثور الشعوب نفسها ،إلى أن ترضخ ،وتتآلف مع بعضها البعض ،وتعقد مع بعضها البعض اجتماعاً حقيقياً، ليجلس كل الرؤساء عند بعضهم البعض ويحلوا قضاياهم . وليلزم كل واحد منهم مكانه ولكن ليجتمعوا مع بعضهم البعض في المصالح الاسلامية العامة ،في ذلك الشيء الذي شنّ بسببه الجميع الهجوم على الإسلام ،وليأخذوا على أيديهم علماً أن ذلك هيّن." (صحيفة الإمام ج18ص268)
ولكن على الرغم من هذا النوع من الجهود والنداءات المتكررة ،إلا أن الامام لم يتمكن من دفع الحكومات الإقليمية التي كانت كل واحدة منها تفكر في مصالحها الوطنية الخاصة بها ،الى اتخاذ استرتيجية وحدوية وبالتالي فإن دبلوماسية الإمام المطالبة بالوحدة لم تحقق نجاحاً. وهنا ييأس الإمام من جدوى اسلوب"اجتماعات القمة" ويطرح في معرض تعبيره عن يأسه من هذا الحل،اسلوباً كفاحياً آخر كان يعبّر عن "الحركة من الاسفل الى الاعلى" حيث يقول:" على الشعوب نفسها ان تفكر في الاسلام . نحن يائسون من الأغلبية الساحقة من رؤساء المسلمين. ولكن على الشعوب نفسها ان تهتم بالامر. فنحن لانشعر باليأس منها."(صحيفة الإمام ج14ص138)


الصعيد الثاني: الشعوب
قام الأسلوب الثاني لكفاح الإمام على مبدأ محورية الشعب الذي يؤدي دوراً مهماً في تغيير الأنظمة السياسية في العالم والتي يقال عنها إنها تؤيد الديمقراطية. وينصب الاهتمام الرئيس للإمام في هذه المرحلة على القوة الشعبية المقتدرة ،رغم أن الشعوب والجماهير المحرومة استأثرت منذ البدء بمكانة رفيعة في فكر الإمام ،ذلك لأن نظرة الإمام إلى الشعب لم تكن نظرة مرحلية تعتبره أداة بل كانت نظرة واقعية وهدفية . وقد خاطب الإمام في الاتجاه الأول رؤساء الحكومات الإسلامية عبر استراتيجية " التوصية والإصلاح" فيما خاطب في الاتجاه الثاني شعوب العالم المستضعفة من خلال اتخاذ الاستراتيجية "الثورية" . وقد عرض الإمام في هذه المرحلة خطوات عملية عديدة تمكن الإشارة من بينها الى الخطوات التالية:
كانت بداية كفاح الشعوب السياسي تتجه نحو المزيد من الفاعلية والإنسجام فيما يتعلق بالمساعي العملية للأحرار المسلمين ، الإستعانة بالقوة في الكفاح في حالة عدم استجابة الحكومات الجائرة لمطالب الشعب المشروعة ،طرح تشكيل "حزب المستضعفين" أو" حزب الله" باعتباره التجسيد للقوة المنظمة للشعوب في العالم المتأزم الحالي ،تأسيس جمهوريات حرة ومستقلة في العالم وبالتالي تشكيل الدولة الإسلامية الكبرى باعتبارها الوحدة الغائية للمطالب التحررية الباحثة عن العدالة للشعوب المستضعفة.
" وأنتم يا مستضعفي العالم ويا أيتها البلدان الإسلامية ويا مسلمي العالم إنهضوا ، وانتزعوا الحق بقبضاتكم واسنانكم ولاتخشوا الضجة الاعلامية للقوى الكبرى والعملاء المرتزقة لها ، واطردوا من بلادكم الحكام المجرمين الذين يسلّمون ثمرة جهودكم الى اعدائكم واعداء الاسلام العزيز ، وأمسكوا انتم انفسكم والطبقات المخلصة والملتزمة بزمام الامور واجتمعوا كلكم تحت لواء الاسلام الشامخ ، وهبوا للدفاع في وجه اعداء الاسلام ومن اجل محرومي العالم، وتقدموا نحو حكومة اسلامية ذات جمهوريات حرة ومستقلة فمن خلال تحققها سوف توقفون كل مستكبري العالم عند حدهم وتوصلون كل المستضعفين الى الإمامة ووراثة الارض ،نرجو أن يحل ذلك اليوم الذي وعد به الله تعالى." (صحيفة الامام ج21 ص 449)