حدود وابعاد الاسلام المحمدي كما يراها الامام الخميني

القسم الاول
مجيد فلاح بور

لا شك أن الامام الخميني (قدس سره) کان احد أبرز المحيين للدين الاسلامي بعد الائمة المعصومين. ومن الواضح أن سماحته بذل كل ما في وسعه وأفنى عمره المبارك على طريق التعريف بالمدرسة الاسلامية السامية بذات السمات الاصيلة التي إتسم بها عهد رسول الله وسيرة آل بيت العصمة والطهارة.. أن الجهود الاحيائية لسماحة الامام لم تقتصر على الابعاد المعرفية والفکرية لدين الاسلام المبين، وإنما عمل على احياء الدين الاسلامي والتعريف به على صعيد الأبعاد المعرفية والتطبيقية على حد سواء.
ان سماحة الامام والى جانب التعريف بأبعاد الاسلام المختلفة، أولى أهمية خاصة بالانحرافات الفكرية والتحجر والسطحية والتعريف بالاسلام بشكل منقوص والالتقاطية الى غير ذلك من الانحرافات. والى جانب نضاله ضد الطاغوت والاستبداد والاستعمار والاستكبار العالمي، حرص سماحته على محاربة الخرافة والتحجر والتظاهر بالقدسة والالتقاط والانحراف ايضاً. وفي السنتين الأخيرتين من عمره المبارك، وضمن تأكيده على ضرورة التمييز بين التجسيد الحقيقي وغير الحقيقي للاسلام، استخدم مصطلح (الاسلام المحمدي) للتعريف بالاسلام الحقيقي، ومصطلح (الاسلام الاميركي)لإيضاح اسلام المتحجرين والمتظاهرين بالقداسة والالتقاطيين، وكان يصرّ و يؤكد مراراً وفي معظم نداءاته وخطاباته وفي مختلف المناسبات، على التعريف بهذين الاسلامين. وحتى أنه كان يعتبر محاولة التعرف على الاسلام المحمدي وتمييزه عن الاسلام الاميركي، من المهام السياسية الهامة للغاية وكان يؤكد عليها كثيراً.
الامام الخميني (قدس سره) أطلق على الاسلام الحقيقي اسم (الاسلام المحمدي)، وعلى الاسلام المنحرف (الاسلام الاميركي)، وتبعاً لذلك كان يعتبر تحديد أطر وحدود الاسلام المحمدي الاصيل من مهام ومسؤوليات الحوزة العلمية والجامعة.

 

أطر وابعاد وحدود الاسلام المحمدي

انطلاقاً من آراء وتصريحات سماحة الامام، سنحاول هنا الوقوف على أبرز أبعاد واطر الاسلام المحمدي كي يتسنى من خلال ذلك التعرف على سمات الاسلام الاميركي باعتباره نهجاً فكرياً يتعارض مع توجهات التيار الاسلامي الاصيل:

 

اولاًالمعرفة الدينية والمعتقدات
على صعيد المعرفة الدينية، الاسلام الاصيل يرفض كل انواع السطحية والتحجر والتظاهر، ويشجع على البحث والنقد والنمو والازدهار، ولن يلجأ الى التكفير والتفسيق في مواجهة الافكار الجديدة مطلقاً، بل على العكس يحاول ضمن تمسكه بالسنن الاصيلة والسليمة، أن يناقش وينتقد ويؤيد ويؤكد بالدليل والبرهان دائماً، ويستعين بالاساليب الحديثة والمؤثرة الى أقصى حد، ولن يهرب مطلقاً من السؤال والاستفسار وإثارة القضايا المعاصرة والمعضلات الفكرية، وفي الحقيقة أن المسائل الجديدة ومواكبة العصر تعتبر من أكثر الاهتمامات الفكرية لأتباع الاسلام الاصيل.
بالنسبة للاسلام المحمدي الدين يتمتع بالكمال والشمولية، و لا يكتفي بظاهر القرآن والسنّة لأن القرآن والسنة ذو ظاهر وباطن، بل حتى الباطن ذو ظاهر وباطن. ولهذا فان الدين لا يتلخص في الفقه والاحكام، بل أن الفقه والاحكام يمثلان الابعاد الظاهرين والعملية للدين فحسب.
ومن هنا فأن أتباع الاسلام الاصيل لم يقتنعوا في الجانب العقائدي، بالعقائد السطحية والظاهرية والمعتقدات التي تنال اعجاب العوام، وإنما يمضون في التعرف على المبادئ العقيدية الى ذروة المعتقدات التوحيدية الاصيلة واجتياز مختلف مراحل التوحيد النظري، وتجسيد التوحيد الخالص في كافة أبعادهم الوجودية. كما أن التوحيد العملي لا يقتصر على الابعاد الشخصية، بل يجسدون التوحيد الكامل في مختلف ابعاد الفرد والمجتمع. ومن أجل تحقيق سعادة الانسان، فهم بصدد تحقيق الحياة المعنوية التي يعبّر عنها القرآن الكريم بالحياة الطيبة. (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة). (سورة النحل، الآية 97).

 

ثانياً – علم الفقه والاحكام العملية
الجانب الفقهي في الاسلام الاصيل لا يكتفي بظواهر الاحكام، وفضلاً عن المحافظة على الظاهر والتمسك والعمل بالاحكام الظاهرية للشريعة وبفلسفة الاحكام، فأنه يهتم بشكل جاد بأسرار الاحكام ايضاً، ولم يضح بالغايات والاهداف والاسرار والبواطن أبداً من أجل المقدمات وظواهر الدين. وطبعاً من البديهي أن لا ينسى المظاهر والاحكام الظاهرية مطلقاً بحجة بلوغ الحقيقة والاحاطة بالأسرار والبواطن، وفي الحقيقة أنه يرى طريق بلوغ الاسرار والبواطن من خلال التمسك بظواهر الاحكام.
وهنا يكمن اهتمام الامام الخميني بأسرار العبادات بما في ذلك اسرار الصلاة والصوم والحج الى غير ذلك. ذلک أن سماحته والى جانب المؤلفات الفقهية وقبلها، اهتم بتأليف المؤلفات العرفانية للتعريف باسرار وبواطن العبادات وأبعادها المعنوية. إذ قام سماحته – على سبيل المثال – بتأليف كتاب (سرّ الصلوة) وکتاب (آداب الصلوة)، اضافة الى النداءات التي كان يصدرها في مواسم الحج وضرورة الاهتمام بأسرار الحج، وكذلك خطابات سماحته عشية حلول شهر رمضان المبارك وضرورة الاهتمام بأسرار الصيام، في كل ذلك کان يؤكد علی هذه الحقيقة. (أنظر: صحيفة الامام، ج 15، ص 168. ج 18، ص 97).
من جهة أخرى ونظراً لشمولية الاسلام وتكامله، فان فقه الاسلام الاصيل متكامل ايضاً ولم يقتصر اهتمامه على الجوانب الشخصية للافراد. كما أنه لم يكتف بالجوانب العبادية أيضاً، بل أن الاسلام الاصيل وانطلاقاً من شموليته اهتم بمختلف الابعاد الفردية والاجتماعية للافراد. ولهذا فأن فقه الاسلام الاصيل يلبي كافة احتياجات الانسان في مختلف الابعاد والاوقات والشعوب والقوميات. ومن هنا فان فقه الاسلام الاصيل، وفي ذات الوقت الذي يحافظ فيه على الاصول والمصادر الاصيلة والسنن القيمة والاستفادة من الجهود القيمة لعلماء السلف والفقهاء الافذاذ، يستفيد من الاساليب الحديثة و الوسائل الجديدة، وفي الحقيقة يستجيب لمستلزمات ومتطلبات العصر وايجاد حلول للمسائل المعاصرة وحاجات الناس. ولهذا يعتبر سماحة الامام فقه الاسلام الاصيل فقهاً تقليدياً وكذلك فقهاً حركياً يلبي حاجات الانسان المعاصر. وفي هذا الصدد يذكر سماحته في نداء هام وجّهه الى المراجع وعلماء الدين وائمة الجمعة في أنحاء البلاد موضحاً: (بالنسبة للدروس والبحوث داخل الحوزات، فأني اؤمن بالفقه التقليدي والاجتهاد الجواهري، وأرى عدم جواز التخلف عنه. الاجتهاد بهذا النهج صحيح، ولكن لا يعني هذا أن الفقه الاسلامي يفتقر الى المرونة، بل أن الزمان والمكان عنصران رئيسيان في الاجتهاد، فمن الممكن أن تجد مسألة كان لها في السابق حكماً، وان نفس هذه المسألة تجد لها حكماً جديداً في ظل العلاقات المتغيرة والحاكمة على السياسة والاجتماع والاقتصاد في نظام ما. أي أنه ومن خلال المعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالموضوع الأول الذي يبدو أنه لا يختلف عن السابق، ولكنه في الحقيقة اصبح موضوعاً آخر يتطلب حكماً جديداً بالضرورة). (صحيفة الامام، ج 21، ص 262).
ولهذا كان الامام الخميني يعتبر الاجتهاد المصطلح غير كاف لإدارة المجتمع وكان يؤمن: (ينبغي للمجتهد أن يكون محيطاً بقضايا عصره، فالناس والشباب وحتى العامة، لن يقبلوا من المرجع والمجتهد الاعتذار عن اعطاء رأيه في المسائل السياسية.. أن الاحاطة بسبل مواجهة التزوير والتضليل للثقافة السائدة في العالم، وامتلاك البصيرة والرؤية الاقتصادية، والاطلاع على كيفية التعامل مع الاقتصاد العالمي ومعرفة السياسات والموازنات وما يروج له الساسة، وإدراك موقع القطبين الرأسمالي والماركسي ونقاط قوتهما وضعفهما، إذ أنهما يحددان في الحقيقة استراتيجية النظام العالمي، أن كل هذا يعتبر من خصائص وسمات المجتهد الجامع.. فلابد للمجتهد من التحلي بالحنكة والذكاء وفراسة هداية المجتمع الاسلامي الكبير وحتى غير الاسلامي. ويجب أن يكون مديراً ومدبراً حقاً فضلاً عن إتسامه بالخلوص والتقوى والزهد الذي هو من شأن المجتهد. والحكومة هي تجسيد الجانب العملي للفقه في تعالمه مع المعضلات الاجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية. الفقه هو النظرية الواقعية المتكاملة لإدارة الانسان من المهد الى اللحد.). (صحيفة الامام، ج 21، ص 26)

 

ثالثاً – القضايا السياسية والاجتماعية
على الصعيد السياسية والاجتماعي، وانطلاقاً من شمولية الدين والفقه الاسلامي، فان الاسلام الاصيل لا يكتفي بالابعاد العبادية والفردية ويعتبر الدين ذات جوانب اجتماعية، وأنه وفضلاً عن التوحيد الفردي يهدف الى ايجاد المجتمع الانساني الموحّد في مختلف الابعاد، ولهذا يقدم نسخة للهداية ويضع قانوناً لكافة الابعاد الاجتماعية. ومن هنا فان الاسلام الاصيل يعتبر الحكم جزءً من الدين، وينظر الى السياسة على أنها الدين بعينه، ويعتبر من واجب المتدنيين ممارسة نشاطاً جاداً في الساحة السياسية، لأن تحقق القسط والعدالة الاجتماعية من أبرز الاهداف السياسية والاجتماعية للدين والاسلام.
الامام الخميني يعتبر فكرة الفصل بين الدين والسياسة من إبتداع المستعمرين الغربيين، وفي هذا الصدد يقول سماحته: (عندما هاجم الانجليز العراق و احتلوه سمعتُ أن قائدهم رأى أحداً يؤذن فوق المئذنة، فسأل عمّ يصنع، فقالوا له: يؤذن، فقال: أو يضرّ هذا الأمر بالامبراطورية؟ فقالوا له: لا. فقال: ليقل ما يريد... إذا كانت صلاتنا وصيامنا لا يضران بالامبراطورية البريطانية ولا يؤثران فيها اصلاً، فاذهبوا وصلوا ما شئتم، وصوموا ما أحببتم. أجل، فما يضرّ بالامبراطورية البريطانية هو الاسلام ومحتواه الواقعي الذي نسي مع الأسف الشديد. ونسيت سياسة الاسلام ايضاً، حتى أنه اصبح عاراً أن يقال أن المعمم الفلاني سياسي!. و(ساسة العباد) التي نقرأها في زيارة (الجامعة)، إذا قيلت لإنسان متظاهر بالتقوى لابد أن تؤول، إذ لا يجرؤون على نعته بالسياسي، فهذا شيء مدعاة للعار أن يتدخل احد في الحكم، لأن ذلك الحكم يجب أن يکون صحيحاً وممارسته سليمة. وهذا من دعايات اولئك الشياطين الذين كانوا يريدون لأن يحفظوا قشور الاسلام وصورته، وأن ننشغل بهذه الصورة لا بالمحتوى.. فهم يسعون لأن يُنسى الاسلام الذي همّه القيام لله والنهضة له ومحاربة ظلم الظالمين، والحكم بالعدل. لنذهب ونعمل ما أحبت قلوبنا، نصلي ماشئنا. أما القضية التي لاتقال فهي مجابهة الطاغوت، فهذه لا تذكروها، واذكروا كل ما تحبون غيرها. أما هي فلا تقال.. إلطموا صدوركم، لكن لا تعرضوا للسياسة ببنت شفة، إلطموا ما دام لطمكم بلا معنى.. يجب أن يكون اللطم على الصدور ذا محتوى.). (صحيفة الامام، ج 8، ص 17 – 18).
وفي أواخر عمره الشريف وفي نداء هام الى علماء الدين في انحاء البلاد، يوضح سماحته هذا الموضوع على النحو الآتي:
(ان الاستكبار العالمي وبعدما يأس من القضاء على علماء الدين وتدمير كيان الحوزات العلمية، لجأ في عصرنا الحاضر الى إسلوبين لتنفيذ مخططه، الأول أسلوب القوة والإرعاب، والثاني اسلوب الخداع والتضليل. ولما فشلت حربته في الارعاب والتهديد بتحقيق اهدافه، سعى الى اسلوب الخداع والتضليل وتقوية نفوذه في الاوساط الدينية. ولعلّ من أولى تحركاته واهمها الترويج لشعار الفصل بين الدين والسياسة. ومع الأسف استطاعت هذه الحربة أن تترك تأثيرها – الى حد ما – في الحوزات العلمية وفي اوساط الروحانية الى درجة اصبح التدخل في السياسة دون شأن الفقيه، وكان الخوض في معترك السياسة مقروناً بتهمة التبعية للأجانب. ولا شك أن علماء الدين المجاهدين تضرروا كثيراً من هذا النفوذ. فلا تتصورا أن تهمة التبعية وافتراءات عديمي الدين الاغيار وحدهم الذين كانوا يلصقونها بالروحانية، أبداً، بل أن الضربات التي ألحقها رجال الدين الجهلة والواعين المرتبطين، كانت ولازالت اكثر تأثيراً من ضربات الاغيار.). (صحيفة الامام، ج 21، ص 253 – 254).
ويضيف سماحته: (... ان الآلام التي تجرع مرارتها والدكم العجوز بسبب هذه الفئة المتحجرة، لم يواجه مثلها مطلقاً من ضغوط ومضايقات الآخرين. وعندما شاع شعار الفصل بين الدين والسياسة واضحت الفقاهة في منطق غير الواعين، الانغماس في الاحكام الفردية والعبادية، وبالضرورة لم يكن يحق للفقيه الخروج عن هذا السياق وهذه الدائرة والخوض في السياسة والحكومة، أصبحت حماقة عالم الدين في معاشرته للناس، فضيلة. وعلى حد زعم بعضهم أن الروحانية تكون جديرة بالاحترام والتكريم عندما تقطر الحماقة من كل نقطة في وجودها! وإلاّ فان عالم الدين السياسي والروحاني الواعي والفطن، مغرض ومدسوس. كل هذا كان من الامور الرائجة في الحوزات، وكل من كان ينهج نهجاً منحرفاً كان يعتبر اكثر تديناً.). (صحيفة الامام، ج 21، ص 254).

 

 

***