في القسم الاول من هذا البحث استعرضنا جانباً من أطر وأبعاد الاسلام الاصيل بناء على آراء وافكار سماحة الامام، وسنحاول في هذا القسم الوقوف على جانب آخر من هذه الأبعاد:
رابعاً – محاربة الظلم ومساندة المحرومين
من جهة أخرى ونظراً لأن أبرز الاهداف السياسية والاجتماعية للاسلام تكمن في إقامة القسط وإرساء العدالة الاجتماعية والنظام التوحيدي العادل بمختلف أبعاده، فأن اتباع الاسلام المحمدي الاصيل يرون أنفسهم على الدوام مسؤولين عن حماية المظلومين والمحرومين والمستضعفين والدفاع عنهم، والتصدي دون هوادة للظالمين والمستكبرين والطواغيت. وعليه فان هدف الاسلام الاصيل في المجال الاقتصادي والمعيشي يكمن في إزالة الحرمان عن جميع المحرومين وتمتع كافة طبقات وفئات المجتمع بالنعم الالهية والثروات الطبيعية. ولهذا فأن اتباع الاسلام الاصيل يناهضون بشدة المترفين والمسرفين والمرفهين الذين لا يعرفون معنی للألم، ولن يسكتوا على جوع الجياع وتخمة اصحاب الكروش.
يقول الامام الخميني (قدس سره) عن علماء الدين ورجاله المناصرين للاسلام الاصيل: (ان علماء الاسلام الحقيقيين لن يخضعوا مطلقاً للرأسماليين وعبدة المال والخوانين، وحافظوا على هذا الشرف على الدوام. ومن الظلم الفاحش أن يرى البعض بأن علماء الدين الحقيقيين انصار الاسلام المحمدي ، والرأسماليين وضعوا أيديهم في إناء واحد، ولن يغفر الله تعالى لكل من يروج لذلك أو يفكر بهذا النحو. بل أن علماء الدين الملتزمين متعطشون لدماء الرأسماليين الطفيليين ولم ولن يتصالحوا معهم. إذ أن هؤلاء العلماء تعلموا الزهد والتقوى والرياضة جنباً الى جنب مع كسبهم المقامات العلمية والمعنوية، وعايشوا الفقر والحرمان وترك بهارج الدنيا، ولم يعرفوا المنّة والذلّة مطلقاً. فالمتأمل في حياة علماء السلف يرى كيف اعتادت روحهم السامية على التعايش مع الفقر، وكيف كانوا يدرسون العلوم على نور الشمعة وشعاع القمر وعاشوا بقناعة وكبرياء.). (صحيفة الامام، ج 21، ص 252).
أن أتباع الاسلام الحقيقي لا يدافعوا عن المحرومين والمستضعفين بشكل دعائي ومرحلي، بل أن الدفاع عن المحرومين هو شعارهم الدائم متمسكين به في القول والفعل على الدوام، وفي حياتهم الشخصية والخاصة ايضاً لا يفكرون بمصالحهم الشخصية ومصالح أسرهم إلاّ بقدر احتياحاتهم الضرورية.
يتحدث الامام الخميني (قدس سره) عن بعض حماة الاسلام المحمدي، الذين كرسوا حياتهم لخدمة المحرومين ومناهضة الظالمين، ولن يألوا جهداً عن التضحية بالغالي والنفيس في هذا الطريق، موضحاً: (ان الفارق الكبير بين الروحانية، وعلماء الاسلام الملتزمين، وبين الذين يتظاهرون بالروحانية ، يكمن في أن علماء الاسلام المناضلين كانوا دائماً هدفاً لسهام الناهبين الدوليين المسمومة، وفي كل حادثة كان اولى السهام تستهدف قلوبهم. غير أن الروحانيين المزيفين كانوا دائماً في كنف وحماية عبيد الذهب وطلاب الدنيا، يروجون للباطل ويمدحون الظلمة ويدافعون عنهم. فحتى الآن لم نر معمماً واحداً من معممي البلاط أو رجل دين وهابي تصدى للظلم والشرك والكفر، لا سيما لروسيا المعتدية واميركا ناهبة العالم. مثلما لم نر عالم دين صادق يعشق خدمة الله وعبادة، تخلى لحظة واحدة عن نصرة الحفاة في الارض ولم يناضل بكل كيانه ضد الكفر والشرك ومن أجل تحقيق أهدافه... ولا شك أن الشعوب الاسلامية ادركت تماماً لماذا يكون امثال مطهري وبهشتي وشهداء المحراب وبقية علماء الدين الاعزاء في ايران، وأمثال الصدر والحكيم في العراق، وأمثال راغب حرب وعبدالكريم عبيد في لبنان، وامثال عارف الحسيني في باكستان وعلماء الدين الواعين لمعاناة الاسلام المحمدي – صلى الله عليه وآله – في كافة الدول. لماذا يكون كل هؤلاء هدفاً للتآمر والاغتيال؟). (صحيفة الامام، ج 21، ص 111 – 112).
خامساً – العبادة والأنس مع المعبود
بالنسبة للجانب العبادي في ثقافة الاسلام الاصيل، أن حقيقة الدعاء ليست من سنخ الكلام والخطابة، وإنما تعبير عن الحال، إذ أن كلام و دعاء الداعي يتحدث عن حالته الروحية والباطنية، مثلما أن حقيقة العبادة لا يعبّر عنها ظاهر أفعال واوراد واقوال العابد، بل عبودية المعبود التي من مستلزماتها التحرر من عبودية غير الله والتسليم لعبودية المعبود الحقيقي، عبادة العباد تتحدث عن عبوديته، وفي غير ذلك فان العبادة الظاهرية بمعزل عن العبودية الحقيقية ليست اكثر من رياء ونفاق، وهذا أيضاً الكفر والشرك بعينه وعلى نقيض من التوحيد والوحدانية.
وفي الوقت نفسه فان مقارعة الطاغوت والتوجه الثوري والانشطة السياسية والاجتماعية، لن تحول دون الارتباط والاتصال بعالم الغيب والإنس مع المعبود، لأن مبدأ رفض الطواغيت ومقارعة المستكبرين وكافة الانشطة السياسية والاجتماعية، إنما هي بدافع ترجمة التوحيد الحقيقي في الحياة الشخصية والاجتماعية وعبودية الحق تعالى. ولهذا فأن المؤمنين بالاسلام الاصيل لن يتخلوا عن عبودية الخالق وعبادته بحجة مقارعة الطاغوت والاستكبار أو الانشطة الاجتماعية والسياسية وخدمة الخلق، وأن كل خدمة تقدم للخلق إنما هي من أجل رضا الخالق من وجهة نظرهم.
ومن هنا فان الامام الخميني وضمن حرصه الشديد على الفرائض الواجبة، كان متمسكاً أيضاً بالنوافل والاعمال المستحبة. وقد اعتاد سماحته على الانشغال بالعبادة والابتهال والتهجد على مدى ساعة كاملة منذ موعد الأذان سواء لصلاة الصبح وصلاتي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وفي الوقت نفسه وعلى مدى سبعين سنة كاملة كان حريصاً على إقامة النوافل خاصة نوافل الليل، وكان دائماً على اتصال عرفاني مع محبوبه ومعبوده. وفي الحقيقة أن نفس هذه العلاقة الصادقة والأنس مع المعبود، صنعت منه شخصية فذة لا تخشى غير الله، ولهذا نهض وحيداً في مقارعة الطواغيت والمستكبرين، ووقف كالطود الشامخ في مواجهة كل الاعاصير والعواصف.
سادساً – الاخلاق والعرفان
على صعيد الأخلاق أيضاً يعتبر اكتساب الفضائل ومكارم الاخلاق واجتناب الرذائل الاخلاقية والتندس الروحي، جزءً من المستلزمات العملية للاسلام الاصيل، وتعد التقوى العملية والسير والسلوك المعنوي والسمو الروحي والعرفان العملي، اضافة الى العرفان النظري، من الاهداف الحقيقية للاسلام الاصيل. ونظراً لأن اخلاق الشخص إنما هي انعكاس لإيمانه ومعتقداته، فمن الطبيعي أن يعد التحلي بها من مستلزمات معتقداته وقناعاته ايضاً، بل أن العلاقة فيما بينهما تمثل نوعاً من الانسجام والاتحاد بين قلب الانسان وروحه، غير أن تجلياتها العينية وانعكاساتها الخارجية تظهر في الاخلاق والعبادات والاحكام العملية. لذا فان مستوى التمسك بالمبادئ الاخلاقية والعملية تشير في الحقيقة الى مستوى الاعتقاد القلبي للانسان. (القرآن في الاسلام، العلامة الطباطبائي، دار الكتب الاسلامية 1376، ص 10 – 11).
بناء على ذلك، الاسلام الاصيل لا يتلخص في الإدعاء والشعار، بل أن تحققه لدى الشخص يستلزم تمسكه العملي والاخلاقي على صعيد السلوك والفعل، لأن الايمان بمعزل عن العمل الصالح لا ينجي، كما أن العمل بدون ايمان لا يجلب السعادة، لأن الحياة الطيبة والحياة الايمانية والدينية التي منوطة بها السعادة الحقيقية والواقعية للبشرية، تتحقق فقط في ظل وجود الايمان مقروناً بالعمل الصالح.
الامام الخميني (قدس سره) بصفته محيّ الاسلام الاصيل، كان منذ شبابه وحتى اللحظات الاخيرة من عمره الشريف معلّماً للاخلاق ومهذباً للنفوس، وعلى الصعيد العملي أيضاً حرص على تهذيب نفسه وتزكيتها والسمو بها في مدارج التقوى العملية، وأن هذا الجانب لا يذكره اصدقائه فحسب، بل أن معارضيه أيضاً لم ينكروا الفضائل ومكارم الاخلاق ودرجات التقوى التي كان يتحلى بها.
وكما أن الاسلام الاصيل في بعده العقائدي والمعرفي لا يقتصر على ظاهر الدين، وأن لبّ الدين وأساسه يكمن في باطنه وثناياه، ولهذا فان القرآن والسنّة ليس لهما ظاهراً فقط، وعلى الرغم من حجية الظواهر، فأن أساس ولبّ القرآن والسنّة في باطنهما وسرّهما، وان الهدف من نزول كتاب الله هو معرفة الحق والسير والسلوك الى الله والتقرب الى الحق تعالى وامتلاك الحياة المعنوية. ومن هنا فان الاسلام الاصيل في الجانب المعرفي لا يتلخص في المعتقدات الظاهرية، وان الاتصال بعالم الغيب والمعرفة القلبية وأن يكون الله تعالى حاضراً، اضافة الى المعرفة العقلية والفلسفية، كل ذلك يعتبر جزءاً من اهداف الاسلام الاصيل، وأن الكشف والشهود والمكاشفة والالهام الغيبي والسير والسلوك المعنوي، يعتبر جانباً مهماً من الاسلام الاصيل.
طبعاً العرفان في الاسلام الاصيل يتباين في بعض الجهات عن عرفان المتصوفة، من ذلك أن العارف في الاسلام الاصيل متمسك بظواهر الشرع تماماً، ولن يتخلى أبداً عن التعبد بالظواهر الشرعية والعبادات بذريعة السير والسلوك ولقاء الله. وثانياً، وخلافاً للمتصوفة، فأنه يمتنع عن عادات وتقاليد المتصوفة والتردد على الخانقاه وحياة الدروشة. وثالثاً، لا يهتم كثيراً بالعلاقة بين المريد والمراد والخضوع للقطب والشيخ. وبدلاً من ذلك يولي أهمية لأولياء الله والمعصومين والتوسل بهم والايمان بشفاعتهم. ورابعاً، لايبتعد عن الحياة السياسية والاجتماعية على الرغم من اسلوب المتصوفة.
وفي هذا المجال يبدو أن الامام الخميني (قدس سره) كان في الطليعة وكان سماحته قد بلغ الذروة في العرفان النظري فضلاً عن العرفان العملي، مما يحتم على اساتذة العرفان والحكمة شرح تراثه العلمي والعملي خلال مرحلة الشباب. (من جملة مؤلفات سماحته كتاب: (شرح دعاء السحر)، و(آداب الصلوة)، و( مصباح الهداية).
باختصار، لإحياء الاسلام الاصيل وتبيان حدوده وأطره، لابد من الالتفات الى الملاحظات التالية:
1 – من حيث المحتوى لابد من الفصل بين الاسلام الاصيل والاسلام الاميركي والتمييز بينهما.
2 – ضرورة التعرف على حدود كل من الاسلام الاصيل والاسلام الاميركي.
3 – لابد من التعرف على حدود وأبعاد الاسلام الاصيل والاحاطة بكافة أبعاده بشكل شامل.
4 – تعريف المجتمع بنماذج ومصاديق اتباع الاسلام الاصيل في التاريخ المعاصر.
5 – تعريف المجتمعات الانسانية بمؤلفات وأفكار الامام الخميني (قدس سره) وسيرته العملية بصفته إمام الاسلام الاصيل في العصر الحاضر.
***