لمحات من كتاب جهاد النفس للإمام الخميني

لمحات من كتاب جهاد النفس للإمام الخميني

يمثل الموقع الذي يحظى به "العالم الدينيًً في المجتمع لبنة أساسية في جدار الحصانة الاسلامية، ويستدعي ذلك شروطا دقيقة ومواصفات صارمة على مستوى الممارسة تسمح بالارتقاء الى موقع النموذج والمثال المحتذى.

الشيخ حسن بدران *
قد وصل الأمر بسبب ضعف العلوم المعنوية والمعارف في الحوزات، إلى أن تنفذ الأمور المادية والدنيوية إلى أوساط علماء الدين وأبعدت الكثيرين عن الأجواء المعنوية والروحية بدرجة باتوا يجهلون: ماذا يعني عالم الدين أصلا؟ وما هو واجبه؟ وما هي المهام التي ينبغي له الاضطلاع بها؟

الجهوزية والتنظيم والانضباط:
يمثل الموقع الذي يحظى به "العالم الدينيًً في المجتمع لبنة أساسية في جدار الحصانة الاسلامية، ويستدعي ذلك شروطا دقيقة ومواصفات صارمة على مستوى الممارسة تسمح بالارتقاء الى موقع النموذج والمثال المحتذى. وهذا الموقع ليس مكسبا عشوائيا، وانما هو ضريبة مكلفة, تستدعي المداومة على الاصلاح، والتجهز، والتنظيم، والانضباط، والترتيب، والانتباه، والتحرك، والتحصين، والاستعداد.. وسائر المفردات المماثلة.
في المرحلة الأولى اهتموا بتهذيب النفس وتزكيتها، وإصلاح ذات بينكم.. خذوا بوسائل العصر.. نظموا أموركم، وابسطوا النظام والانضباط على كل شؤون الحوزات العلمية.. هذبوا أنفسكم، وتجهزوا واستعدوا للحيلولة دون وقوع المفاسد التي يمكن أن تعترضكم. حصنوا الحوزات العلمية واجعلوها قادرة على التصدي للمشاكل التي ستواجهها.. فكروا قبل أن تضيع الفرصة، وقبل أن يستولي الأعداء على جميع شؤونكم الدينية والعلمية.. فكروا وانتبهوا وتحركوا.. لا تتشبثوا بالذرائع وتخلقوا لأنفسكم الأعذار بأن المرحلة لا تقتضي ذلك..
وبنظر الإمام، لا يوجد أي عذر في الإخلال بهذه القواعد الضرورية، ذلك أن أي إهمال سوف يتسبب بثمن فادح, لا أقل القضاء على النفس وعلى أحكام الاسلام.. بحيث يصح القول هنا أن الخطأ الأول هو الخطأ الأخير.
إن عالم السوء العالم الغارق في حب الدنيا، العالم الذي لا يفكر بغير البقاء في مركزه والحفاظ على زعامته, إن مثل هذا العالم لا يستطيع مجاهدة أعداء الإسلام، وإن ضرره أكثر من غيره، فلتكن خطواتكم ربانية، أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم، وآنذاك يمكنكم أن تجاهدوا.. لا تدعوا الآخرين يحاولون تنظيم هذه الحوزات، لا تسمحوا للأعداء أن يتسلطوا عليها زاعمين أن العلماء ليسوا أهلا لشيء ولا يقدرون أن يفعلوا شيئا، إنما هم مجموعة عاطلين عن العمل، إنهم بهذه الذرائع يريدون إفساد هذه الحوزات بذريعة إصلاحها وتنظيمها، يريدون أن يتسلطوا عليكم، فلا تدعوا لهم عذرا.. إذا نظمتم أموركم وهذبتم أنفسكم وضبطتم كل أوضاعكم فلن يطمع الآخرون بكم، ولن يعد بمقدورهم النفوذ إلى حوزاتنا العلمية ومؤسساتنا العلمائية.
في سبيل ذلك، يتوجب وضع طلبة العلم - في إطار المواجهة مع العدو المتربص شرا بالاسلام -، بين خيارين: إما العمل على الاعداد والتنظيم والتجهز, لاحباط مؤامرات العدو، وإما الإهمال وما ينتج عنه من الفناء والزوال.
إذا لم تصلحوا أنفسكم وتتجهزوا وتجعلوا النظام والانضباط حاكما على دراستكم وحياتكم، فإنكم محكومون بالفناء والاندثار.. إن عملاء الاستعمار يتطلعون للقضاء على الإسلام ومحو كل أثر له. ولابد لكم من الوقوف في وجه ذلك وقفة شجاعة. ولن يتسنى لكم ذلك مع وجود حب النفس والجاه والغرور والتكبر.. إن مستقبلكم مظلم, يحيط بكم أعداء كثيرون من كل صوب.. إذا لم تنظموا أنفسكم وتعدوا العدة للتصدي للضربات التي تكال كل يوم للإسلام، فسوف تقضون على أنفسكم وكذلك على أحكام الإسلام، وستكونون مسؤولين عن ذلك كله. إنكم لن تستطيعوا أن تتخلصوا من خططهم الشيطانية إلا في ظل بناء الذات والتهذيب والنظم والترتيب السليم. فبهذا وحده تستطيعون أن تحبطوا محاولاتهم المجرمة هذه.

التفاعلية، عمومية الطابع:
نظرا لما يمثله عالم الدين من موقع متقدم، وطبيعة الدور الذي يقوم به، وهو دور يتجاوز مجرد التمثيل الرسمي والمهني، ويستوجب ايمانا رساليا وانتماءا نهائيا، بحيث يتحول العالم الى قدوة ونموذج ومثال أعلى في نظر العموم، وتتحول القيم التي يمثلها بتصديه للمنصب الى ايمان في وجدان الجماعة وكيانهم، لأجل ذلك فإن أي انحراف أو فساد يصدر عنه، سوف يترك تداعيات سلبية كبيرة يتعدى اثرها الوضع الشخصي إلى الوضع العام، وسوف ينجم عن ذلك تصدعات في بنية ايمان الجماعة قد لا يسهل جبرها، نتيجة فقدان الثقة.
وإذا كان لا يصح تعميم السلوكيات الفردية في الحالات العادية، إلا أن المكانة العلمائية تفترض سلوكا مختلفا نظرا لحساسية الموقع، سيما وأن المرتجى من هذا الموقع هو مخاطبة الجماعة الاسلامية، ما يعني ضرورة أن تتحمل الجماعة العلمائية (كجماعة) نتائج الآثار السلبية الناجمة عن أي اختلالات جزئية قد تلحق بهذا الموقع.
يحذر الامام في هذا السياق إلى أن العمل القبيح من العالِم سوف ينسب الى الاسلام، لا الى فاعله. ولذلك يجب تنزيه ساحة العلماء من كافة أشكال التلوث، والتعفن، والفساد، والخبث، والانحطاط، واقتراف القبائح والسيئات.. ويجب الحذر من الاندراج في علماء السوء. إن الأعمال التي تصدر عن العلماء لها طابع عام، ما يستوجب منهم العمل على تجاوز البعد الفردي إلى البعد العام.
إذا ارتكب العامي والجاهل معصية، فإنه يسيء إلى نفسه فحسب ويضرها، ولكن إذا ما انحرف العالم وارتكب عملا قبيحا فإنه سيحرف عالما، وأسيء إلى الإسلام وعلماء الدين.. إن ما ورد في الحديث من أن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، هو لأنه يوجد فرق كبير في الدنيا بين العالم والجاهل بالنسبة لنفعهم وضررهم للإسلام والمجتمع الإسلامي.. إن هذا التلوث هو الذي يتأذى من رائحة تعفنه أهل جهنم.. إن هذا التعفن والأعمال السيئة التي يجترحها عالم السوء والعالم غير العامل والعالم المنحرف في هذه الدنيا، هي التي تتحول إلى روائح كريهة تؤذي مشام أهل جهنم في الآخرة، دون أن يضاف لها شيء في تلك الدنيا. فالذي يحدث في عالم الآخرة الشيء ذاته الذي كان في هذه الدنيا, فلا يضاف شيء إلى أعمالنا وإنما تتحقق ذاتها.. إذا ما اتصف العالم بالإفساد والخبث فإنه سيجر المجتمع إلى الانحطاط والتعفن, غاية الأمر أن حاسة الشم في هذه الدنيا لا تشم رائحة تعفنه، ولكن في الآخرة تشم.. إن الشخص العامي ليس باستطاعته أن يوجد مثل هذا الفساد والتلوث في المجتمع الإسلامي. الشخص العامي لم يسمح لنفسه أبدا أن يدعي الإمامة والمهدوية والنبوة والألوهية. العالم الفاسد هو الذي يجر العالم إلى الفساد: إذا فسد العالم فسد العالم.
أنتم مرتبطون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. إنكم بمجرد دخولكم الحوزات العلمية تكونون قد ربطتم أنفسكم بفقه الإسلام وبالرسول الأكرم والقرآن الكريم. فإذا ما ارتكبتم عملا قبيحا فسوف يمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويسيء إليه، ومن الممكن أن يلعنكم لا سمح الله. فلا تسمحوا لأنفسكم أن تحزنوا قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقلوب الأئمة الأطهار، وتكونوا سببا في آلامهم.
في المقابل، يؤكد الإمام على الطابع الايجابي لوجود العالِم الصالح في المجتمع، ومدى التأثير الاجتماعي البالغ لأخلاقية العالم الذي يتحلى بالتهذيب، والصلاح، والتقوى، والورع، والاستقامة.. إن مجرد وجود العالم الصالح في المجتمع سوف يبعث على هداية الناس ولو لم يمارس الوعظ والارشاد.
إذا كان العالم الورع والصالح يعيش في مجتمع أو مدينة أو إقليم ما، فإن وجوده يبعث على تهذيب أهالي تلك المدينة وهدايتهم، وإن لم يكن يمارس الوعظ والإرشاد لفظا..
كنت أرى في بعض المدن التي كنت أذهب إليها في فصل الصيف، أهالي تلك المدن ملتزمين بآداب الشرع إلى حد كبير. والسبب في ذلك كما اتضح لي، هو أنه كان لديهم عالم صالح ومتق.. لقد رأينا أشخاصا كان وجودهم يبعث على الموعظة والعبرة.. إن مجرد النظر إليهم كان يبعث على الاتعاظ والاعتبار.. المنطقة التي يقطنها عالم ورع ومتق، يكون أهاليها مؤمنين صالحين..
إذا ما انحرف العالم فمن الممكن أن يضل أمة بأسرها ويجرها إلى الهاوية. وإذا كان مهذبا يراعي الأخلاق والآداب الإسلامية، فإنه يعمل على هداية المجتمع وتهذيبه.

(التشدد تجاه الذات) الاحتياط والتنزه والتعفف:
يتميز الموقع الذي يتصدى له "العالم الدينيًً عن سائر المواقع الأخرى من حيث خطورة المسؤوليات، وحساسية الواجبات. ويفترض أن يتحلى العلماء بنمط خاص من اللياقات في سلوكهم بحيث تتماشى مع التوقعات المفترضة فيهم.
إن مسؤوليتكم جسيمة للغاية، وواجباتكم غير واجبات عامة الناس.. إن واجبات علماء الدين جسيمة للغاية، وإن مسؤولياتهم أعظم من مسؤوليات سائر الناس.. كم من الأمور مباحة لعامة الناس إلا أنها لا تجوز لكم، وربما تكون محرمة عليكم.. الناس لا تتوقع منكم أداء الكثير من الأمور المباحة، فكيف إذا ما صدرت عنكم - لا سمح الله - الأعمال القبيحة غير المشروعة، فإنها ستعطي صورة سيئة عن الإسلام وفئة علماء الدين.
وفي هذا السياق ينبّه الإمام على خطورة هذه المسؤولية، وضرورة التمسك بعصا الاحتياط, فإن واجبات العلماء غير واجبات الناس، وقد يحرم عليهم ما هو مباح للناس.
إذا شاهد الناس عملا أو سلوكا من أحدكم خلافا لما يتوقع منكم، فإنهم سينحرفون عن الدين ويبتعدون عن علماء الدين، وليس عن ذلك الشخص.. إذا ما رأى الناس تصرفا منحرفا أو سلوكا لا يليق من أحد المعممين، فإنهم لا ينظرون إلى ذلك بأنه من الممكن أن يوجد بين المعممين أشخاص غير صالحين، مثلما يوجد بين الكسبة والموظفين أفراد منحرفون وفاسدون.. إذا ما ارتكب بقال مخالفة، فإنهم يقولون إن البقال الفلاني منحرف. ولو ارتكب عطار عملا قبيحا، فإنهم يقولون: إن العطار الفلاني شخص منحرف. ولكن إذا ما قام أحد المعممين بعمل لا يليق، فإنهم لا يقولون: إن المعمم الفلاني منحرف، بل يقولون إن المعممين سيئون.

المسلكية، والاعداد الاخلاقي:
يمتلك الكثير من طلبة العلم تصورا خاطئا عن طبيعة الدور الموكل إليهم في أثناء تواجدهم في الحوزات، لهذا ينصرفون إلى تعلم المصطلحات، وحفظ القواعد العلمية، وتكديس المفاهيم.. وأما الجوانب الأخلاقية فتأتي في الدرجة الثانية!
إن مجرد تعلم هذه المصطلحات لا يجدي نفعا.. لا تتصوروا أن كل واجبكم أن تحفظوا حفنة من المصطلحات، بل تقع على عاتقكم مسؤوليات أخرى أيضا.. طبعا إن كسب العلم واجب، ولكن مثلما تجدّون وتجتهدون في المسائل الفقهية والأصولية يجب أن تسعوا في طريق إصلاح أنفسكم أيضا.. إن الحوزات العلمية بحاجة إلى تعليم وتعلم المسائل الأخلاقية والعلوم المعنوية جنبا إلى جنب مع تدريس الموضوعات العلمية.. ينبغي لطلبة العلوم الدينية أن لا يتوانوا في سبيل اكتساب الملكات الفاضلة وتهذيب النفس، وأن يهتموا بالواجبات المهمة والمسؤوليات الخطيرة الملقاة على عاتقهم.
هذا الخطأ يقع فيه غالبا القيّمون على العمل الحوزوي، ولذلك ينبه الإمام إلى أنه إذا استمر الوضع على ما هو عليه من التواني والاهمال، سوف تتضاءل المعنويات وسوف يأتي يوم تخلو فيه الحوزة من المربين، وسوف لن يعود بامكان الحوزة القيام بهذه المهمة الجليلة. ان اتمام الاخلاق كان على رأس أهداف البعثة النبوية الشريفة.
من المفيد أن يهتم الفقهاء العظام والمدرسون الأعلام ممن هم محط اهتمام الجامعة ـ الحوزة ـ العلمية، بتربية الأفراد وتهذيبهم خلال تدريسهم وأبحاثهم، وأن يركزوا أكثر على القضايا المعنوية والأخلاقية.. العلوم المعنوية والأخلاقية بدأت تتضاءل، وبات يخشى أن لا تتمكن الحوزات العلمية في المستقبل من تربية علماء أخلاق ومربّين مهذبين ومتقين ورجال ربانيين، إذ لم يبق البحث والتحقيق في المسائل المقدماتية مجالا للاهتمام بالمسائل الأصلية والأساسية التي ركز عليها القرآن الكريم واهتم بها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الأنبياء والأولياء.. لقد بعث أنبياء الله لبناء الإنسان وتربيته، وإبعاده عن القبائح والخبائث والنقائص والرذائل، وترغيبه بالفضائل والآداب الحسنة: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاقًً.
عندما يكون العلم في أرضية غير صالحة، سوف ينبت نباتا خبيثا، وسوف تزداد الحجب أكثر فأكثر "العلم هو الحجاب الأكبرًً. من هنا، يدعو الإمام إلى ضرورة اقتران العلم بالتهذيب، وان يعمل طلبة العلم على التربية والتكميل الى جانب الدراسة العلمية.. إن كل خطوة وسعي علمي يجب أن تقارنه خطوات في الجانب الاخلاقي. وإن مطلب رواج التعاليم الاخلاقية وشياعها في الحوزة هو مطلب ملح وضروري.
إن علما اهتم به الله تعالى كل هذا الاهتمام وبعث من أجله الأنبياء، أصبح الآن مهملا في حوزاتنا ولا نجد أحدا يهتم به الاهتمام الذي يستحقه.. العلم عندما يكون في أرضية غير صالحة، سوف ينبت نبتا خبيثا ويصبح شجرة خبيثة.. أي خطوة تخطونها على طريق كسب العلم، ينبغي أن تقابلها خطوة أخرى على طريق استئصال الأهواء النفسية الخبيثة القوى الروحية واكتساب مكارم الأخلاق وتحصيل التقوى.. ينبغي أن تكون البرامج الأخلاقية والتربوية، ودروس التربية والتهذيب، وتعليم المعارف الإلهية التي مثلت الهدف الأساس من بعثة الأنبياء ـ عليهم السلام ـ رائجة وشائعة في الحوزات العلمية. ولكن ما يؤسف له أن هذا النوع من البحوث المهمة والضرورية قلما يتم الاهتمام بها في المراكز العلمية.. كلما تكدست هذه المفاهيم في القلب المظلم غير المهذب، ازدادت الحجب أكثر فأكثر: "العلم هو الحجاب الأكبرًً.
من هنا، يطلق الإمام ما يشبه صرخة مدوية داعيا إلى ضرورة أن تكون الأولوية في الحوزة للانجاز الاخلاقي على الانجاز العلمي، فلا يجوز الانهماك بالمقدمات على حساب الأهداف الأساسية، بل يجب أن يكون العلم مقدمة للأخلاق.
إن تحصيل هذه العلوم هو في الواقع مقدمة لتهذيب النفس واكتساب الفضائل والآداب والمعارف الإلهية.. إذا لم يتخلص الإنسان من الخبائث،فإن دراسته وتعلمه لا تجديه نفعا بل تلحق به أضرارا أيضا.. إن علم التوحيد إذا لم يقترن بصفاء النفس سيكون وبالا.. إذا تجردت هذه المصطلحات الجافة من التقوى وتهذيب النفس، فإنها كلما تكدست في الذهن أكثر، تعاظم التكبر والغرور في دائرة النفس أكثر فأكثر.. إذا ما بقيت الحوزات العلمية هكذا خالية من مدرسي الأخلاق ومجالس الوعظ والإرشاد فستكون محكومة بالفناء..

النجاعة في العمل التبليغي:
يبتني صلاح المجتمع على صلاح الانسان، وعلى تهذيب النفس والاخلاص والصدق. إن النجاح في عملية التبليغ، والتوفيق في هداية الآخرين، يتوقفان على تربية النفس وتهذيبها. وإذا كان المرتجى من طالب العلم هو العمل على بناء الانسان وتربيته وتهذيبه.. فلا بد أن يستغل الفرص من خلال اعداد النفس اعدادا جيدا قبل مغادرة الحوزة للتبليغ. وقد تكفل الله تعالى للعلماء العاملين أن يستجيب الناس لهم، وأن يجعل القلوب تهفو إليهم.
ينبغي لكم أن تبنوا أنفسكم وتربوها في هذه الحوزات بحيث إذا ما ذهبتم إلى مدينة أو قرية وفقتم إلى هداية أهاليها وتهذيبهم.. يؤمل منكم عند مغادرتكم الحوزات العلمية أن تكونوا قد هذبتم أنفسكم وبنيتموها بنحو تتمكنون من بناء الإنسان وتربيته وفقا لأحكام الإسلام وتعاليمه وقيمه الأخلاقية.. إذا خطوتهم من أجل الله تعالى، فإن الله مقلب القلوب،
يجعل القلوب تهفو إليكم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾.

استشعار خطر المسؤولية:
نظرا لخطورة المسؤولية، ينبه الإمام إلى أن مسؤولية العلماء وواجباتهم ثقيلة وجسيمة. وعلى الرغم من أن "كلكم مسؤول عن رعيتهًً إلا أن مسؤولية العلماء تأتي في الدرجة الأولى. إن العجز عن إصلاح النفس وعدم اكتساب الكمالات المعنوية والأخلاقية، سوف يؤدي إلى اضلال الناس، والاساءة إلى الإسلام وإلى علماء الدين. وأن يتحول طالب العلم إلى عنصر مضر للإسلام والمجتمع الإسلامي وحياة المسلمين وآخرتهم. ولن يقتصر الأمر على إفساد جموع غفيرة من الناس والتسبب في انحرافهم، بل سوف يتحول إلى عقبة في طريق تقدم المسلمين، ويحول دون نشر الإسلام والإطلاع على حقائق القرآن، وسوف يحول دون تعرف المجتمع على حقيقة الإسلام وواقع علماء الدين.
تقع على عاتقكم مسؤولية ثقيلة وجسيمة.. إذا ما رجعنا إلى (أصول الكافي) وكتاب (الوسائل)، وتصفحنا الأبواب المتعلقة بواجبات علماء الدين فسوف نواجه بواجبات عظيمة ومسؤوليات خطيرة ذكرت لأهل العلم.. أنتم أيها العلماء، وأنتم أيها الطلاب، يا طلبة العلوم الدينية، ويا أيها المسلمون، كلكم مسؤولون، مسؤوليتكم أيها العلماء وطلبة العلوم الدينية تأتي في الدرجة الأولى، ثم مسؤولية بقية المسلمين. "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيتهًً.. نسأل الله تعالى أن يوفق العلماء وطلاب العلوم الدينية للتنبه للأخطار المحدقة بهم، ووعي مسؤولياتهم الجسيمة في عصرنا الحاضر.. إذا ما عجزتم - لا سمح الله - عن إصلاح أنفسكم خلال مراحل الدراسة، ولم تكتسبوا الكمالات المعنوية والأخلاقية، فإنكم أينما ذهبتم ستضلون الناس - والعياذ بالله - وتسيئون إلى الإسلام وإلى علماء الدين.. إذا لم تعملوا بمسؤولياتكم في الحوزات العلمية ولم تفكروا بتهذيب أنفسكم، واقتصر همكم على تعلم عدد من المصطلحات وبعض المسائل الفقهية والأصولية، فإنكم ستكونون في المستقبل عناصر مضرة - لا سمح الله - للإسلام والمجتمع الإسلامي.. من الممكن أن تتسببوا - والعياذ بالله - في إضلال الناس وانحرافهم.. إن هذه المصطلحات مهما كثرت وعظمت، إذا لم تكن مقرونة بالتهذيب والتقوى فإنها سوف تنتهي بضرر حياة المسلمين وآخرتهم.. ما أكثر الأشخاص الذين كانوا علماء في علم التوحيد ولكنهم كانوا سببا في انحراف جموع غفيرة من الناس.. كم من الأشخاص كانوا يتقنون هذه الدروس التي تدرسونها بنحو أفضل منكم، ولكن نظرا لأنهم كانوا منحرفين ولم يصلحوا أنفسهم ويهذبوها، فإنهم عندما نزلوا إلى المجتمع أضلوا الناس وأفسدوا كثيرين.. إن عالم السوء الذي سيطر عليه الغرور والتكبر، لم يتمكن من إصلاح نفسه والمجتمع، ولم يجلب غير الضرر للإسلام والمسلمين. وسوف يصبح بعد سنين من طلب العلم وإنفاق الحقوق الشرعية والتمتع بالحقوق والمزايا الإسلامية، عقبة في طريق تقدم الإسلام والمسلمين، ووسيلة في تضليل الشعوب وانحرافها, وتصبح ثمرة كل هذه الدروس والبحوث والانشغال في الحوزات، أن يحول دون نشر الإسلام وإطلاع العالم على حقائق القرآن. بل قد يصبح وجوده حائلا دون تعرف المجتمع على حقيقة الإسلام وواقع علماء الدين.. فلو فكرتم قليلا بأمور آخرتكم وعقباتها الكأداء لأوليتم اهتماما أكبر للمسؤوليات الجسام الملقاة على عواتقكم.
إذا ما انحرف إنسان وضل بسبب سلوك بعض العلماء وسوء عمله، فمن الصعب أن تقبل توبته، ذلك أنه يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد. لهذا لا بد من الابتهال الى الله تعالى للتوفيق والتنبه للأخطار المحدقة، ووعي المسؤوليات الجسيمة.
إذا ما انحرف إنسان وضل بسبب سلوككم وسوء عملكم، فإنكم ترتكبون بذلك أعظم الكبائر، ومن الصعب أن تقبل توبتكم.. عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "يا حفص، يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد.ًً، لأن معصية العالم تسيء كثيرا للإسلام والمجتمع الإسلامي.

الروح التربوية:
إن مهمة العلماء هي هداية المجتمع، والانقطاع الى الله تعالى في لباس خدمة الخلق، وهي مهمة الانبياء والاولياء. ذلك أن هداية انسان واحد خير مما طلعت عليه الشمس، ومن لا يستطيع إصلاح نفسه، فكيف يتسنى له هداية الآخرين وإرشادهم وإدارتهم؟
لهذا، ينبغي ان يكون سلوك العالم في المجتمع مثاليا، وذلك من خلال تحسين السلوك مع عباد الله تعالى والنظر إليهم بعطف وحنان، واحترام العالم منهم لعلمه، وإكرام الصالح منهم لصلاحه وكذلك من كان في سبيل الهداية، والتودد إليهم، ومحادثتهم ومؤآخاتهم.. وكذلك الاقتداء بالأئمة الأطهار الذين كانوا يوضحون الكثير من المسائل عن طريق الأدعية والأعمال الصالحة.
حسّنوا سلوككم مع عباد الله تعالى وانظروا إليهم بعطف وحنان.. أكرموا عباد الله الصالحين والطيبين, فاحترموا العالم منهم لعلمه، واحترموا من هو في سبيل الهداية لأعماله الصالحة.. توددوا إلى الناس وحادثوهم وآخوهم.. هذبوا أنفسكم وتحلوا بالصدق والإخلاص، أنتم الذين تريدون هداية المجتمع وإرشاده. فالذي لا يستطيع إصلاح نفسه، كيف يتسنى له هداية الآخرين وإرشادهم وإدارتهم؟.. لقد كان الأئمة الأطهار يوضحون كثيرا من المسائل عن طريق الأدعية.. لو أن شخصا اهتدى بكم فإن ذلك خير لكم مما طلعت عليه الشمس.

التسلح العلمي:
العلم سلاح خطير ذو حدين, ومآله إما إلى الخير وحسن العاقبة، وإما إلى الضلال وسوء العاقبة. وكلما ازداد العلم كلما ازدادت شوكة هذا السلاح وسطوته. ولهذا نجد أن غالبية الذين تظاهروا بالتدين وتسببوا في انحراف كثيرين وإضلالهم، كانوا من أهل العلم, ذلك أن العلم إذا وقع في القلب الفاسد كان أخطر وأعظم من كل الشرور، فيجعل الظلمة أكثر عتمة، ويتحول إلى حجب ظلام، ولن يجني صاحبه سوى الحجاب والابتعاد عن الحق تعالى. فالعلم نور لا مكان له في القلوب الصدئة. ولأجل أهمية العلم، يدعو الإمام إلى تعزيز قواعد الفقاهة، وأن يصبح العلماء من أصحاب الرأي فيها.
إن غالبية الذين تظاهروا بالتدين وتسببوا في انحراف كثيرين وإضلالهم، كانوا من أهل العلم. بعض هؤلاء درسوا في المراكز العلمية الدينية ومارسوا الرياضات النفسية.. إن مؤسس إحدى الفرق الضالة قد درس في حوزاتنا العلمية هذه، ولكن نظرا لأن دراسته لم تكن مقترنة بتهذيب النفس وتزكيتها، لم يخط على الصراط المستقيم، ولم يتمكن من إبعاد نفسه عن الرذائل، فكانت عاقبته كل تلك الفضائح.. شر العالم الفاسد بالنسبة للإسلام أخطر وأعظم من كل الشرور.. العلم نور، إلا أنه في القلب المظلم والقلب الفاسد، يجعل الظلمة أكثر عتمة.. العلم يقرب الإنسان من الله تعالى، إلا أنه في النفس الطالبة للدنيا يبعث على الابتعاد ـ أكثر ـ عن محضر ذي الجلال.. علم التوحيد أيضا إذا لم يكن خالصا لله فإنه يتحول إلى حجب ظلام، لأنه انشغال بما سوى الله.. لو أن شخصا حفظ القرآن بالقراءات الأربع عشرة لغير ـ وجه ـ الله تعالى وتلاها، فإنه لن يجني سوى الحجاب والابتعاد عن الحق تعالى.. أنا لا أقول: لا تدرسوا، لا تكسبوا العلم, بل ينبغي أن تلتفتوا إلى أنكم إذا أردتم أن تكونوا أبناء مفيدين وفاعلين للإسلام والمجتمع، وأن تتولوا قيادة الأمة وتوعيتها بالإسلام، وإذا أردتم أن تدافعوا عن حمى الإسلام وتذودوا عن حياضه, ينبغي لكم أن تعززوا قواعد الفقاهة وأن تصبحوا من أصحاب الرأي فيها.. إذا لم تدرسوا فإنه يحرم عليكم البقاء في المدرسة، ولا يمكنكم الاستفادة من الحقوق الشرعية المخصصة لدارسي العلوم الإسلامية.

الامتثالية:
إن العالم القدوة يتجاوز الذات ويبذل العطاء والجهد والتضحية. ويعمل على توطين النفس على التضحية من أجل الإسلام، والاستعداد التام للبذل والعطاء. ولا يتوقع على عمله اجرا دنيويا، وإنما يطلب الأجر والثواب الأخروي, لأن الدنيا لا تعني له شيئا ولا قيمة لها، والأجر الأخروي خالد ليس له نهاية أو حد.
ليحاول كل واحد منكم أن يلقن نفسه من الآن بأنه يتطلع لأن يكون جنديا يضحي من أجل الإسلام.. يتطلع للتضحية من أجل الإسلام.. إن كرامتكم وكيان الإسلام وكرامة الدول الإسلامية منوطة بمدى استعدادكم للتضحية والبذل والعطاء.. إذا ما جاهدتم في سبيل الله وضحيتم من أجله تعالى، فإنه سبحانه لم يترككم دون أجر وثواب. وإن لم يكن ذلك في هذه الدنيا فستحصلون عليه في الآخرة.. إذا لم تنالوا أجركم وثوابكم في هذه الدنيا فذلك أفضل لكم، لأن الدنيا لا تعني شيئا ولا قيمة لها. فكل هذا الصخب والضجيج وهذه الاعتبارات سوف تنتهي خلال أيام معدودات وتمر من أمام عين الإنسان كالحلم, بيد أن الأجر الأخروي خالد ليس له نهاية أو حد.

الانسانية:
على الرغم من وعورة طريق العلم وصعوبته، وتوقفه على الجهد والاجتهاد، ولكن يوجد فرق كبير بين أن تكون عالما وأن تكون مهذبا, وهو فرق تختصره كلمة الامام: "من الصعب أن تصبح عالما ومن المستحيل أن تكون إنساناًً. لذلك كانت دعوته للعلماء إلى اكتساب الفضائل والمكارم الإنسانية والمعايير الآدمية: جدوا واجتهدوا لأن يكون كل واحد منكم إنسانا.
لو درستم وتحملتم الصعاب في هذا السبيل، فقد تصبحون علماء، ولكن ينبغي أن تعلموا أن ثمة فرقا كبيرا بين "العالمًً وًًالمهذبًً.. كان أستاذنا المرحوم الشيخ الحائري (رحمه الله) يقول: "يقولون: من السهل أن تصبح معمما ـ رجل دين ـ ولكن كم هم صعب أن تكون إنساناًً. إلا أن هذا القول غير صحيح، إذ ينبغي القول: من الصعب أن تصبح عالما ومن المستحيل أن تكون إنسانا.. جدوا واجتهدوا لتكونوا في المستقبل نافعين للإسلام، وباختصار أن يكون كل واحد منكم إنسانا. إن اكتساب الفضائل والمكارم الإنسانية والمعايير الآدمية أصعب وأشق بكثير من التكاليف الملقاة على عاتقنا.

الانقطاع واخلاص النية:
يتمحور خطاب الإمام الى العلماء على مفردات من قبيل ضرورة الاخلاص، وقصد القربى، والنية الخالصة لوجه الله تعالى، وكمال الانقطاع، والانقطاع بكل القوى عن كل ما سوى الله سبحانه. ذلك أن السبيل إلى ترويض النفس غير اعتيادي، وتحقيق معنى الانقطاع إلى الله تعالى يحتاج إلى جهد ورياضة واستقامة وممارسة، وتعويد اللسان على ذكر الله ومناجاته، وتأدية العمل بعيدا عن الرياء، والانقطاع عن شياطين الإنس والجن. ويحذر الإمام من الموانع التي قد تحول دون بلوغ هذه الذرى، فما دام في القلب مثقال ذر من حب الدنيا، وما دام لم ينقطع عن الدنيا ويجتنب لذائذها، وما دام يعمل لغير الله وبدافع الأهواء النفسية والاستحواذ على المراكز الاجتماعية والوجاهة الدنيوية.. فإن هذه العلوم لن تنفع شيئا، ولن نجني غير الوزر والويل والوبال والابتعاد عن عرش الربوبية. فلا بد من اجتناب كل ذلك في صورته الكاملة, وهي الانقطاع التام إلى الله تعالى.
لا تتصوروا أنكم بانشغالكم الآن بطلب العلوم الشرعية ودراسة الفقه الذي هو أشرف العلوم، قد ارتحتم وعملتم بواجبكم وتكليفكم. فإذا لم يتوافر الإخلاص وقصد القربى، فإن هذه العلوم لا تنفع شيئا.. إذا كان تحصيلكم العلمي لغير الله والعياذ بالله، وبدافع الأهواء النفسية والاستحواذ على المراكز الاجتماعية والوجاهة الدنيوية، فإنكم لن تجنوا غير الوزر والويل والوبال.. إن هذه المصطلحات إن لم تكن لوجه الله تعالى، فستكون وزرا ووبالا.. ليكن الإخلاص رائدكم في درسكم وبحثكم لكي يقربكم من الله تعالى.. إذا لم تتوافر النية الخالصة في الأعمال، فسوف يبتعد الإنسان عن عرش الربوبية.. إن كمال الانقطاع لا يتحقق بهذه البساطة. إنه بحاجة إلى ترويض للنفس غير اعتيادي ويحتاج إلى جهد ورياضة واستقامة وممارسة، لكي يمكن الانقطاع بكل القوى عن كل ما سوى الله سبحانه وتعالى، وأن لا يكون هناك توجه لغير الله تعالى.. من المستحيل أن يستطيع الإنسان بلوغ هذه الذرى مادام في قلبه مثقال ذر من حب الدنيا.. حاولوا قدر المستطاع أن تحققوا معنى الانقطاع إلى الله تعالى، وأن تؤدوا أعمالكم بعيدة عن الرياء، وخالصة لوجه الله تعالى، وانقطعوا عن شياطين الإنس والجن.. عوّدوا ألسنتكم على ذكر الله ومناجاته.. إن جملة (إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك) ربما تريد أن توضح هذا المعنى، وهو أن الرجال الربانيين الواعين ينبغي لهم أن يعدوا أنفسهم ويهيئوها قبل حلول شهر رمضان، لصوم هو في الحقيقة انقطاع عن الدنيا واجتناب لذائذها (وهذا الاجتناب في صورته الكاملة هو هذا الانقطاع إلى الله).

الهدفية:
يرى الإمام أن الهدف السامي والمقدس لطالب العلم يتمثل في معرفة الله تعالى وتهذيب النفس وتزكيتها. وتاليا، إصلاح المجتمع وبنائه، وخدمة الإسلام والمسلمين. من هنا يحذر الإمام من خطر المراوحة في المقدمات، ويحث طلبة العلم على مداومة التفكير في ثمرة عملهم ونتيجة جهدهم، وأن يبذلوا الوسع لتحقيق الهدف الأصلي والأساس.
إن ضعف العلوم المعنوية والمعارف في الحوزات، يؤدي إلى نفوذ الأمور المادية والدنيوية إلى أوساط علماء الدين، ويتسبب في عدم وضوح الرؤية، كالجهل بوظيفة عالم الدين، وواجباته، ومهامه.. وبكلمة واحدة الجهل بالهدف. فالبعض يسعى من وراء الدراسة للحصول على الجاه والمنصب والمقام والتملق للآخرين.. وقد لا يجني من دراسته غير جهنم، والبعد عن الله عز وجل.
يذكر الإمام بحكاية ذلك الحجر الذي ألقي في جهنم وسمع صداه بعد سبعين سنة. وقد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: إنه رجل هرم كان في السبعين من عمره، وخلال هذه السبعين عاما كان يسير نحو جهنم.
لا مانع من أن يصبح طالب العلم صاحب مقام، لكن لا بد له من تهذيب النفس، حتى إذا ما أصبح رئيس قوم أو فئة، اشتغل في تهذيب نفوسهم أيضا.
حاذروا أن تبقوا إلى آخر العمر تراوحون في هذه المقدمة دون أن تحققوا النتيجة المرجوة.. إنكم تبغون من وراء كسب هذه العلوم هدفا ساميا ومقدسا يتمثل في معرفة الله تعالى وتهذيب النفس وتزكيتها.. لابد لكم من التفكير بثمرة عملكم ونتيجة جهدكم.. ابذلوا كل ما بوسعكم لتحقيق هدفكم الأصلي والأساس.. حاذروا أن تكونوا بنحو إذا ما فتحت صحيفة أعمالكم بعد سبعين سنة من العمر، يرى فيها ـ والعياذ بالله ـ أنكم أضحيتم سبعين سنة بعيدين عن الله عز وجل. لا شك أنكم سمعتم حكاية ذلك "الحجرًً الذي ألقي في جهنم وسمع صداه بعد سبعين سنة. وقد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: إنه رجل هرم كان في السبعين من عمره، وخلال هذه السبعين عاما كان يسير نحو جهنم.. حاذروا أن تكون عاقبة أحدكم أن يقضي خمسين عاما ـ أو أكثر أو أقل ـ في الحوزات العلمية مع كد اليمين وعرق الجبين ولا يجني غير جهنم.. قد وصل الأمر بسبب ضعف العلوم المعنوية والمعارف في الحوزات، إلى أن تنفذ الأمور المادية والدنيوية إلى أوساط علماء الدين وأبعدت الكثيرين عن الأجواء المعنوية والروحية بدرجة باتوا يجهلون ماذا يعني عالم الدين أصلا؟ وما هو واجبه؟ وما هي المهام التي ينبغي له الاضطلاع بها؟.. بعض ليس لهم غير تعلم بضع كلمات ثم الرجوع إلى مناطقهم أو أي مكان آخر للحصول على الجاه والمنصب والمقام والتملق للآخرين, مثلما كان أحدهم يقول: دعني أدرس "اللمعةًً وحينها سوف أفهم كيف أتصرف مع مختار القرية.. يجب أن لا يكون الأمر بنحو تتلخص نظرتكم وغايتكم من الدراسة منذ البداية في الحصول على المنصب الفلاني وكسب المقام الكذائي، أو أن تصبحوا رؤساء المدينة الفلانية أو شيوخ القرية الفلانية.. فمن الممكن أن تحققوا هذه الأهواء النفسية والأماني الشيطانية، ولكن لن تكسبوا لأنفسكم ولأمتكم ولمجتمعكم الإسلامي غير التعاسة والشقاء. فمعاوية ترأس وتأمّر لفترة طويلة إلا أنه ما جنى لنفسه سوى اللعن والذم وعذاب الآخرة.. لابد لكم من تهذيب أنفسكم، حتى إذا ما أصبح أحدكم رئيس قوم أو فئة، اشتغل في تهذيب نفوسهم أيضا.. حاولوا أن تخطوا على طريق إصلاح المجتمع وبنائه.. ليكن هدفكم خدمة الإسلام والمسلمين.

الاعداد والاستعداد:
الانتساب الى الحوزة العلمية - برأي الإمام - يعني قبل كل شيء التفكير بإصلاح النفس، وتهذيبها قبل النزول إلى المجتمع. والسبب في ذلك: ليتسنى له هداية الناس، ويتسنى للناس أن يستفيدوا من الفضائل الأخلاقية التي يتحلى بها ويتعظوا ويصلحوا أنفسهم بالتأسي به.
إن عدم الاهتمام بالاعداد الآن – حيث يتسع الوقت والطاقة لذلك -سوف يحول دون الإصلاح لاحقا عندما يلتف الناس حول العالم وتصبح مسؤولياته جسيمة، وسوف يضيع نفسه ويخسرها. لهذا ينبغي المبادرة إلى بناء النفس واصلاحها قبل أن يفلت الزمام من الأيدي، فقد تتوافر الفرصة لأن يفعل شيئا لنفسه على الأقل. أما لو أصبحت اللحية بيضاء وكبرت العمامة قبل أن يتمكن صاحبها من اكتساب الملكات الخلقية الفاضلة وتنمية قواه الروحية، فسوف يبقى محروما من الاستفادات العلمية والمعنوية وجميع البركات.
أنتم عندما تنتسبون إلى الحوزات العلمية ينبغي لكم أن تفكروا بإصلاح أنفسكم قبل كل شيء.. ما دمتم في الحوزة فيجب أن تكونوا بصدد تهذيب أنفسكم وإصلاحها، لكي يتسنى لكم إذا ما تركتم الحوزة وأخذتم على عاتقكم هداية أبناء مدينة أو محلة ما، يتسنى للناس أن يستفيدوا من الفضائل الأخلاقية التي تتحلون بها ويتعظوا ويصلحوا أنفسهم بالتأسي بها.. حاولوا أن تصلحوا أنفسكم وتهذبوها قبل النزول إلى المجتمع.. إذا لم تهتموا الآن ـ حيث تمتلكون متسعا من الوقت والطاقة ـ بتهذيب أنفسكم، فسوف لا تقدرون على إصلاح أنفسكم عندما يلتف الناس حولكم وتصبح مسؤولياتكم جسيمة.. لا قدر الله أن تصبح لحية طالب العلوم الدينية بيضاء بعض الشيء وتكبر عمامته، قبل أن يتمكن من اكتساب الملكات الخلقية الفاضلة وتنمية قواه الروحية, لأنه والحال هذه سوف يبقى محروما من الاستفادات العلمية والمعنوية وجميع البركات.. اغتنموا الفرصة وجدوا واجتهدوا قبل المشيب، فإذا لم تحظوا باهتمام الناس وتوجههم، فقد تتوافر لكم الفرصة لأن تفعلوا شيئا لأنفسكم.. لا قدر الله تعالى أن يهتم المجتمع بشخص ما قبل أن يتمكن ذلك الشخص من تربية نفسه، ويصبح ذا نفوذ ومنزلة بين الناس, فعندها سوف يضيع نفسه ويخسرها.. ابنوا أنفسكم وأصلحوها قبل أن يفلت الزمام من أيديكم.

التواضع:
يدعو الامام الى ضرورة أن يتحلى العالم بالتواضع العلمي، ويحذر من أنه إذا كبرت عمامة أحدهم وطالت لحيته، فيصعب عليه - إذا لم يكن قد هذب نفسه - أن يواصل تحصيل العلوم الدينية ويكون مفيدا، ويكون من الصعب عليه كبح جماح النفس الأمارة، وحضور درس أحد. إن بناء الإنسان لا يتحقق بدون معلم، والإنسان وحده يعجز عن تهذيب نفسه، والشخص المغرور والعنيد الذي لا يتخذ لنفسه مرشدا وموجها لا يصبح فقيها وعالما. إن علماء الاسلام الكبار كانوا يحضرون دروس الآخرين وهم في مرحلة متقدمة من العمر، فالشيخ الطوسي (رحمه الله) كان يذهب إلى درس السيد المرتضى كتلميذ وهو في سن الثانية والخمسين، في حين كان قد صنف بعض مؤلفاته ما بين سن العشرين والثلاثين. والشيخ الأنصاري (رحمه الله)، كان يحضر - وهو أستاذ الفقه والأصول - درس الأخلاق والمعنويات لدى سيد جليل.
ثمة أشياء كثيرة يبتلى بها الإنسان وتحول دون التهذيب واكتساب العلم. وإن أحد هذه الموانع ـ لبعض الناس ـ هي هذه اللحية والعمامة! فإذا كبرت عمامة أحدكم وطالت لحيته، يصعب عليه ـ إذا لم يكن قد هذب نفسه ـ أن يواصل تحصيل العلوم الدينية ويكون مفيدا، ويكون من الصعب عليه كبح جماح النفس الأمارة، وحضور دروس أحد.. الشيخ الطوسي (رحمه الله) كان يذهب إلى الدرس كتلميذ وهو في سن الثانية والخمسين، في حين كان قد صنف بعض مؤلفاته ما بين سن العشرين والثلاثين. ويبدو أنه صنف كتاب “التهذيب” في هذا السن. وفي سن الثانية والخمسين كان يحضر دروس السيد المرتضى (رحمه الله) وهذا ما أهّله لأن يصل إلى ما وصل إليه.. ليتخذ كل واحد منكم مدرسا للأخلاق، وشكلوا مجالس الوعظ والنصح والإرشاد.
فالإنسان وحده يعجز عن تهذيب نفسه.. كما يحتاج علم الفقه والأصول إلى أستاذ ودرس وبحث، وكل علم وصناعة في الدنيا لابد لها من أستاذ ومدرس. والشخص المغرور والعنيد الذي لا يتخذ لنفسه مرشدا وموجها لا يصبح فقيها وعالما, فكذلك العلوم المعنوية والأخلاقية التي هي هدف بعثة الأنبياء ومن ألطف العلوم وأدقها، بحاجة إلى تعليم وتعلم.. إن بناء الإنسان لا يتحقق بدون معلم.. لقد سمعت مرارا أن الشيخ الأنصاري (رحمه الله)، وهو أستاذ الفقه والأصول، كان يحضر درس الأخلاق والمعنويات لدى سيد جليل.

الوعي واليقظة:
تتمتع الحوزات العلمية وعلماء الدين بدعم وتأييد الشعوب. ومادام هذا الدعم والتأييد قائمين فمن غير الممكن سحق الحوزات والقضاء عليها أبدا. وفي الحقيقة أن الحكومات تخشى الشعوب، ولهذا فهي تحتمل إذا ما أهانت وتجاسرت وتعرضت إلى أحد علماء الدين، أن ذلك سوف يثير سخط الأمة ويفجر غضبها ضدها.. ولكن إذا ما كان علماء الدين مختلفين فيما بينهم ويسيء بعضهم لبعض، ولم يكونوا متأدبين بآداب الإسلام، فإنهم سيفقدون اعتبارهم ويخسرون ثقة الأمة بهم.
من هذا المنطلق، يحذر الإمام من التقليل من أهمية البرامج التربوية والأخلاقية. ومن الأيادي الخبيثة التي تبث السموم ودعايات السوء والأفكار الخبيثة في الحوزات لكي تجردها من المعنويات والأخلاقيات، فتصوّر مثلا ارتقاء المنبر للوعظ والإرشاد على أنه يتنافى مع المكانة العلمية, غافلين عن أن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان منبريا، وكان يعظ الناس ويرشدهم من على المنابر..
ان الله تبارك وتعالى وضع الدين الإسلامي المقدس بمثابة أمانة بين أيدينا. فالقرآن الكريم أمانة الله الكبرى، والعلماء هم المؤتمنون عليها، وإن واجبهم الحفاظ على هذه الأمانة الكبرى وعدم خيانتها. وما التشتت والاختلاف واللغط والضجيج الذي لا طائل من ورائه، إلا خيانة للإسلام ولنبيه الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
أنا لا أدري لم هذه الاختلافات والتحزبات؟! فإن كانت من أجل الدنيا، فأنتم لا تملكون شيئا في الدنيا! وإن كنتم تتمتعون باللذائذ والمنافع الدنيوية، فإن ذلك لا يستحق الاختلاف. ألستم روحانيين، أم أنكم لم ترثوا من الروحانية غير العمامة والعباءة؟! إن عالم الدين الذي يؤمن بما وراء الطبيعة.. عالم الدين الذي يتحلى بتعاليم الإسلام الحية وأحكامه البناءة.. عالم الدين الذي يعتبر نفسه من شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام.. إن عالم الدين هذا من غير الممكن أن يهتم بشهوات الدنيا، ناهيك أن يثير الخلاف بسببها.. إن مثل هذه الصراعات والنزاعات تبدو مبررة طبقا لمنطق أهل الدنيا مع تلك العقول الملوثة. أما نزاعاتكم فإنها تفتقد للتبريز حتى بمنطق هؤلاء.
فإذا سئلوا لماذا تتنازعون، سيقولون إننا نسعى للاستيلاء على البلد الفلاني، ولابد من فرض سيطرتنا على ثروات وموارد البلد العلاني. ولكن إذا سئل منكم: لم تتنازعون، ومن أجل أي شيء، ماذا ستجيبون؟ فما الذي تملكون من الدنيا ويستحق التنازع من أجله؟ إن مرتب أحدكم الشهري الذي يأخذه من المراجع، أقل مما ينفقه الآخرون على سجائرهم في الشهر الواحد. لقد قرأت في إحدى الصحف عن الميزانية التي يدفعها "الفاتيكانًً لقسيس في واشنطن، فعندما حسبت ذلك وجدت أنه أكثر من جميع الأموال التي تمتلكها الحوزات العلمية لدى الشيعة! فهل من المعقول مع هذه الحال التي عليه حياتكم من بساطة وزهد، أن تختلفوا فيما بينكم وتتكالبوا على الدنيا ويعادي أحدكم الآخر؟.. إن جذور كل الاختلافات التي تفتقد إلى الهدف المحدد والمقدس، تعود على حب الدنيا. وإذا ما وجدت الاختلافات في أوساطكم فهو لأنكم لم تخرجوا حب الدنيا من قلوبكم. ونظرا لأن المنافع الدنيوية محدودة، فإن كل واحد يتنافس مع الآخر للاستحواذ عليها. أنت تريد المقام الفلاني وغيرك أيضا يكافح من أجله، فمن الطبيعي أن يقود ذلك إلى التحاسد والاختلاف..
إن هذه الاختلافات خطيرة وتترتب عليها مفاسد لا تعوض. إنها تسيء إلى الحوزات العلمية وتدمرها، كما أنها تفقدكم مكانتكم الاجتماعية وتحقركم في عيون المجتمع.. إن هذه التحزبات والفئويات لا تنتهي بضرركم فحسب، ولا تسيء إلى سمعتكم وحدكم, بل تسيء إلى سمعة المجتمع وكيانه.. تسيء إلى الأمة وإلى الإسلام. وإن المفاسد التي تترتب على اختلافاتكم ذنوب لا تقبل العفو والغفران، وهي عند الله تبارك وتعالى أعظم من كثير من المعاصي، لأنها تفسد المجتمعات وتفتح الباب واسعا أمام تسلط الأعداء وبسط نفوذهم.. فليس مستبعدا أن تعمل أيادٍ خفية على إيجاد الفرقة والاختلاف لتداعي أركان الحوزات العلمية، وزرع النفاق والشقاق، وتسميم الأفكار والأذهان حتى يصبح التكليف الشرعي مشوبا بالنزاعات مثقلا بالاختلافات، وبذلك يوجدوا الفساد في الحوزات، وبهذه الوسيلة يتم تسقيط الأشخاص الذين يعلق الإسلام عليهم الآمال، لكي لا يكون بمقدورهم خدمة الإسلام والمجتمع الإسلامي في المستقبل.

*القدوة الأهمية وتحولات الدور, سلسلة الندوات الفكرية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


* باحث واستاذ في الحوزة العلمية.
1- عنوان الكتاب: الجهاد الأكبر أو جهاد النفس, وأبحاث الكتاب عبارة عن تقريرات لدروس ألقاها الإمام في النجف الأشرف.

ارسل هذا الخبر الی الاصدقاء