بمناسبة ذكرى ولادة الامام الخميني

بمناسبة ذكرى ولادة الامام الخميني

نظرة إجمالية الى سيرة الإمام الحافلة وأبرز الاحداث والوقائع التي تركت تأثيرها على حياته.


في مطلع القرن العشرين، وفيما كان العالم الغربي يطوي جادة التطور والرقي مسرعاً، لم يجن الشعب الايراني من حكم الاسرة القاجارية خلال هذه الفترة، سوى الظلم والضياع. واستنادا لما يذكره المؤرخون واصحاب المذكرات، كانت المجاعة والقحط، والنهب والسلب، والاضطرابات وانعدام الأمن، وانعدام الصحة والسلامة، وفقدان المستلزمات الاولية للحياة، السمة الغالبة في حياة الشعب الايراني.
كما أن (الحركة الدستورية) كانت قد ضلت طريقها، نتيجة لمخططات عملاء الانجليز في البلاط القاجاري ودسائسهم، فضلا عن الصراعات الداخلية وخيانة جمع من المثقفين المتغربين. فعلى الرغم من ان علماء الدين كانوا في طليعة هذه الحركة إبان انطلاقتها، إلا أنه تم اقصائهم عن الساحة بمختلف أنواع الدسائس والاحابيل، وعاد الاستبداد ليلقي بظلاله من جديد على مناحي المجتمع. فكانت النـزعة العشائرية التي اتسمت بها الملكية القاجارية، وضعف رجالها وافتقارهم للمؤهلات والكفاءة؛ كانت وراء التدهور الاقتصادي والتدني الاجتماعي الذي شهدته ايران في هذه الفترة، مما شجع الخوانين والاشرار للعبث بمقدرات الناس وامن المجتمع. (حميد انصاري، حديث الانطلاق، ص21.)
في ظل هذه الاوضاع والاحوال، ومع شروق شمس اليوم الاول من شهر مهر عام 1281 شمسي، الموافق العشرين من جمادي الثاني 1320 للهجرة، وتزامنا مع ذكرى ولادة الصديقة الزهراء (سلام الله عليها)، بضعة الرسول الاكرم (ص)، ولد في مدينة خمين طفل قاد فيما بعد نهضة إلهية استطاعت أن تعيد للشعب الايراني عزته وكرامته وتمضي به قدماً على خطى الاسلام والتقدم والازدهار.
اطلق على هذا المولود، الذي رأى النور في السادس والعشرين من سبتمبر، وحيث مضى على ولادة السيد المسيح 1902 عاماً، اسم روح الله. ولا شك أن احداً لم يكن يعلم آنذاك، بأن هذا الطفل سيصبح الامام  الخميني، المحي لدين الله، والذي إعاد الحياة للقيم الإلهية السامية في عصر كانت قد مسخت هذه القيم.
لم يكن قد مضى على ولادة روح الله سوى اربعة أشهر  و22 يوما، حتى استشهد والده، الذي كان يومها الملاذ والحامي للمضطهدين والمظلومين، ورمز مقارعة ظلم واستبداد الخوانين واصحاب النفوذ المحليين في خمين، استشهد على ايدي هؤلاء الظالمين، ليمسي روح الله تحت كفالة ورعاية والدته السيدة هاجر، وعمته السيدة صاحبة خانم، ومن ثم شقيقه الاكبر السيد مرتضى بسنديدة.
بيد أنه حُرم من نعمة وجود الام والعمة معا في سنّ الخامسة عشرة.. وخلال هذه الفترة طوى في خمين مراحل تحصيلاته العلمية، ومن ثم توجه في سن السابعة عشرة للالتحاق بالحوزة العلمية في اراك، لينهل من علوم الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي، احد كبار علماء ايران آنذاك. وبعد ثلاث سنوات من انتقال آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري الى حوزة قم العلمية، شدّ سماحته الرحال الى المدينة للاقامة فيها، ومواصلة دراسته الحوزوية وطي المدارج العلمية حتى بات من خيرة أساتدة الحوزة العلمية وعلمائها المبرزين. وان من جملة الاساتذة الذين كان لهم دور بارز في إثراء الجانب الفكري لسماحة الامام وتكامل شخصيته، المرحوم آية الله الشيخ شاه آبادي، لاسيما في توجهاته العرفانية.
عُرف روح  الله في هذه الفترة، بالحاج السيد روح الله.. ونظرا لما امتاز به سماحته من روح حساسة باحثة دقيقة ومنتظمة، ومثابرته وسعيه المتواصل، اصبح من الفطاحل ومن كبار الشخصيات الشهيرة في تدريس العلوم المتداولة في الحوزة العلمية من قبيل الفقة والاصول والفلسفة والعرفان.. وفضلاً عن اهتمام الامام بالتدريس وتربية تلامذة بارزين، انكب سماحته على تصنيف مؤلفات قيمة يعد كل واحد منها فريداً في بابه في عصرنا هذا.
على صيعد أخر، ان بناء الذات ومجاهدة النفس، الذي اولاه منذ نعومة اظفاره اهتماماً بالغاً وشكّل معيناً دائماً لتحركه وتوجهاته، كان قد صنع من شخصيته شخصية جامعة متكاملة حتى أن (خصاله البشرية قلما تتوافر لدى الاشخاص الاعتياديين، واذا ما شوهدت احدى هذه الخصال لدى شخص ما عدّ هذا الشخص إنساناً عظيماً، فكيف والحال قد اجتمعت كل هذه الخصال الفذة في رجل واحد.. إذ كان الامام الخميني إنساناً عاقلاً للغاية، عميق الفكر، حكيم، خبير بالناس، حليم، متين، ذو رؤية مستقبلية. وان كل واحدة من هذه الصفات  كانت كافية لتضع صاحبها في مرتبة سامية وتفرض احترامه على الجميع.)(آية الله السيد الخامنئي، حديث الولاية، ج1، ص23.).
بيد أن هذه الشخصية، بما امتازت به من خصال وسمات فذة، لم تكن تتطلع في كل اهتماماتها وتوجهاتها، سوى الى رضا الله تعالى فحسب، وتتوكل عليه وتحسن الظن به. ولعل هذا ما كان وراء سيرته الموفقة وتحقيق سماحته كل هذه النجاحات، والفيض بكل هذه البركات على جميع الناس.
وفضلاً عن تحصيل العلوم وكسب المعارف والتفوق في هذا الميدان، وكذلك تهذيب  النفس وبناء الذات والتحلي بالمحاسن والخصال  الفردية القيمة، كان الامام يتمتع _ منذ مرحلة الشباب _ بروحية مناهضة للظلم، وحرص شديد على متابعة القضايا السياسية والاجتماعية والاحاطة بخفاياها، وقد تنامى وتكامل لديه هذا الوعي بموازاة تكامله العلمي والروحي.
تواصل هذا النهج لدى الامام بصور مختلفة، سواء في عهد رضاخان أو في عهد ابنه محمد رضا، الى ان برزت قضية اتحاد الاقاليم والمدن بعد رحيل المرحوم آية الله العظمى السيد البروجردي. وطرح تبعاً لذلك موضوع استفتاء الشاه والثورة المسماة بالبيضاء. وتواصلت الأحداث لتفضي إلى انتفاضة الخامس عشر من خرداد، حيث اضطلع الحاج السيد روح الله، بدور بارز في قيادة النهضة الشعبية والتصدي للنظام الشاهنشاهي المستبد والظالم.
وبعد منتصف ليلة الخامس عشر من خرداد عام 1342 شمسي _ 5 حزيران 1963 _ تمت مهاجمة منـزل الامام الخميني في قم واعتقال سماحته، ومن ثم احتجازه لمدة عشرة أشهر في طهران، حيث فرضت عليه الاقامة الجبرية. إلا أن عوامل عديدة اضطرت النظام الحاكم للافراج عنه. ولانه لا يساوم الظالمين ولن يهدأ له بال حيال الاستبداد الداخلي، ولا يرضى بالهيمنة الاجنبية على شؤون المسلمين، انتفض سماحته مرة أخرى ازاء قضية منح الحصانة القضائية للرعايا الاميركيين في ايران. وفي ضوء ذلك ألقى خطاباً هاجم فيه بشدة الولايات المتحدة وأياديها وأذنابها وربيبتها اسرائيل، اضافة الى اصدار بيان شديد اللهجة ينتقد فيه سياسات النظام الحاكم، قاد في النهاية الى نفيه الى تركيا.
وخلال فترة النفي، التي امضى عاماً منها في تركيا وثلاثة عشر عاماً في النجف الاشرف بالعراق، وفضلاً عن اهتمامه بالحلقات الدراسية في النجف، واصل السيد روح الله النضال بأساليب مختلفة حتى بلغ ذروته واشتد لهيبة مع حادثة استشهاد نجله العالم الفاضل المرحوم آية الله السيد مصطفى الخميني في الاول من آبان عام 1356 شمسي.
وبسبب الحصار الذي فرض على تحركات الامام الخميني في النجف، اضطر سماحته إلى ترك العراق والهجرة الى فرنسا، وقيادة وتوجيه مسيرة النضال والثورة من هناك.
ومع خروج الشاه من ايران في 26/10/1356 شمسي، وتصاعد النضال وبلوغه الذروة، عاد الامام الخميني الى ارض الوطن في 12 بهمن 1356_ بعد غياب دام 14 عاماً _ حيث كان في استقباله حشد جماهيري فريد لم يشهد التاريخ له نظير.
وبفضل قيادته وتوجيهاته، حققت الثورة الاسلامية الشعبية انتصارها في الثاني والعشرين من بهمن 1357 _ 11 شباط 1979 _، وأسس سماحته الجمهورية الإسلامية الإيرانية لتحل محل النظام الشاهنشاهي البغيض، وبذلك اضطلع الامام الخميني بأعظم دور في تحرير الانسان وإرساء دعائم واحدة من اكثر الحكومات شعبية، تتخذ من تعاليم الدين الاسلامي الحنيف نهجاً لها.
ربما يمكن القول بأن ابرز تطلعات هذا الانسان الصانع لنفسه، سواء انطلاقاً من موقعه كطالب للعلوم الدينية، أو كأستاذ وعالم بارز ومرموق في الحوزة العلمية بمدينة قم، او كقائد للثورة والنهضة، او من موقعه كمرجع ديني كبير وقائد للجمهورية الاسلامية الايرانية _ النظام الالهي_؛ تتجلى في تجسيد عبوديته لله تعالى في كافة توجهاته ونشاطاته وفي مختلف المراحل وجميع الاوقات. وبالتالي اداء التكليف في ضوء هذه العبودية، ساعياً إلى انقاذ الانسان والسمو به في مدراج الكرامة والكمال. وفي هذا السياق يمكن النظر الى تحركات سماحته  في مقارعة الظلم، والتصدي لهيمنة الاجانب سواء على المستوى الوطني وعلى صعيد العالم الاسلامي، والمستضعفين في العالم، والنضال ضد الشاه واميركا واسرائيل، ومناصرة الشعب الفلسطيني المظلوم، وقضايا عديدة من هذا القبيل، كلها تصب في هذا السياق وتأتي من هذا المنطلق.
ومن الواضح تماماً ان هذا الانسان الباني لنفسه، وبوحي من اتباعه تعاليم الاسلام السامية في مختلف أبعاد وجوده، استطاع أن يسمو بنفسه في مدراج الكمال، وقد بلغ في تعلقه بجمال الحق منزلة رفيعة أهلته لان يكون مظهراً لجمال المحبوب في مختلف الابعاد الفردية والاجتماعية.


ارسل هذا الخبر الی الاصدقاء