کيف تعرف آية الله جوادي آملي على الامام الخميني؟

کيف تعرف آية الله جوادي آملي على الامام الخميني؟

إنّ ما ينبغي أن أذكره هو بدء تعرّفي على قائد الثورة الإسلامية الإمام الخميني.

من كتاب العشق الإلهي لسماحة آية الله الشيخ جوادي الآملي

إنّ ما ينبغي أن أذكره هو بدء تعرّفي على قائد الثورة الإسلامية الإمام الخميني.
إنّ تاريخ ذلك يعود إلى انتقالي من (حوزة طهران) إلى (حوزة قم) وكان بحث (أصول الفقه) وهو من العلوم الاعتبارية حيث تندمج فيه قواعد العقلاء ومسائل العرف، وكان تحليله عميقاً قوياً في استدلاله ولم يكن يسمح أبداً للأوهام والاعتبارات أن تلج فيه.. وهذا ما يكشف عن شخصيته القوية.
وقد قيل: (رسولك ترجمان عقلك وكتابك أبلغ ما ينطق عنك).
ولقد كان الإمام ينطق بالحكمة التي لا تنبع إلاّ عن رجل حكيم.
وكانت سيرته العلمية مطبوعة بطابع الحرّية، لأنه كان حرّاً في تفكيره مستقلاً عن جميع المؤثرات.
وكان يرفض، رفضاً قاطعاً مجاملة الرأي العام من أجل حطام الدنيا في زمن كان يتهافت فيه الكبار على مجاملة الجمهور ويعدّون ذلك نجاحاً لهم. في مثل تلك الظروف كان الإمام يستنكر هذا النهج.. فلم يكن في باله أبداً أن يتزلف إلى الأثرياء وأهل الدنيا لتأمين وارد مالي.
وكان هذا الاستقلال ونزعته الحرّة جزءاً من جانب التقوى في شخصيته.
فلم يكن يهمّه تهافت الطلاب عليه أو انفضاضهم عنه.. فلا تحلّقهم حوله يشعره باللذة، ولا تفرقهم يجعله يحس بالوحشة.
وكان ما يبهر طلبته فيه ليس مقامه العلمي فحسب بل روحه الكبيرة ونهجه التحرّري وحكمته.
وقد طبعت الموعظة دروسه.. خاصّة في شهر رمضان المبارك وشهر محرم الحرام أو في موسم العطلة الصيفية.
كانت دروسه مواعظ ومواعظه دروس وعبر، وكنا نتعامل مع مواعظه كجزء من المنهج الدراسي حيث يتم ضبطه وتسجيله.
روح قوية وكلمات تزخر بالعرفان.. كأنه ينهل من نبع سماوي، وكانت شخصيته تنطوي على أبعاد العارف الحكيم حيث العقيدة في قلبه عقد  وعهد.
ومن هنا كانت كلماته عميقة الأثر في القلوب والنفوس.
لم يكن للخدعة والمكر طريق إليه، وكان يعامل أبناءه كما يعامل الآخرين حتى نجد السيد مصطفى على منزلته العلمية المعروفة لم يفتح له حساباً أكثر مما هو مقرّر ولم يدع لأحد حتى نجله الكبير أن يتدخل في شؤونه.
سيرته الحرّة، استقلاله وروحه الكبيرة، اجتذبت إليها الطلاب وشدّتهم إلى شخصيته، حتى إذا رحل المرحوم البروجردي عن الدنيا وترك بعده فراغاً واختلافاً فيمن يملأ هذا الفراغ.. كان موقف الإمام (رضوان الله عليه) اعتزال مثل تلك الميادين فملأ الفراغ بخلقه الإلهي.. فهو لم يسع إلى المرجعية بنفسه ولا سعى في الحصول عليها بل جاءت هي بنفسها إليه، فكان زعيماً للثورة وزعيماً للحوزة.
وفي مدينة النجف الأشرف (منفاه الثاني) طلبوا منه إذناً لترجمة رسالته إلى اللغة (الأردو) ونشرها في باكستان فتساءل:
ـ ألا توجد رسالة عملية هناك؟
وجاء الجواب: أجل توجد رسالة لأحد المراجع!
وعندها قال الإمام:
ـ إذن تكفي!
وعلى امتداد تلك السنوات أدرك الأعداء والأصدقاء على حدّ سواء أن الإمام يعمل في طريق الله.. والله سبحانه أيضاً ولا ريب ينصر عبده المخلص.
وقد أعقب رحيل السيد البروجردي إقدام الحكومة على لعبة من لعب الاستعمار فقامت وبذريعة تحرير المرأة بإجراء انتخابات بلدية وكان الهدف الحقيقي استعباد المرأة وفي تلك الفترة ظهرت شيئاً فشيئاً بوادر النهضة.
انعقدت اجتماعات وبدأ العلماء يصدرون بيانات مشتركة.. أما ذلك الرجل الذي كان يمارس دوره الإلهي من وراء حجاب فقد كان له في القضية حساب.. رأى أن يعلن مواجهته الصريحة للفساد.
وما زلت أتذكر برقية أرسلها أحد المراجع إلى الشاه المقبور حثه فيها على الطلب من حكومته اجتناب الانحراف عن الدين وجاء جواب الشاه: (نتمنى لكم الموفقية في إرشاد العوام).
وبادر الإمام إلى تسطير بيان خاطب فيه الشاه قائلاً:
(إنك تطلب موفقية المراجع في إرشاد العوام).
وفي هذه إشارة صريحة إلى اعتبار الدولة والشاه من ضمن العوام الذين هم بحاجة إلى إرشاد مراجع الدين .
وهذا الموقف الفولاذي لم يكن ليتأتى من الآخرين بل أن مجرد قراءة هذه البيانات الثائرة كان يشعرهم بالرعب حتى بدأ غليان الثورة في عام 1342ﻫ.ش  واجتازت الثورة مرحلة البيانات والبرقيات وتبادل الزيارات والنداءات الهاتفية وأطل يوم 25 شوال 1382ﻫ.ق المصادف 2/1/1342ﻫ.ش وكانت مذبحة مدرسة (الفيضية) في ذكرى شهادة الإمام الصادق (عليه السلام).
عندما أنقض مرتزقة النظام البهلوي المشؤوم على عشرات الطلاب في المدرسة وارتكبوا مذبحة يندى لها جبين الإنسان.. وفي ذلك الجوّ حيث الخوف والرعب يهيمن على الأجواء أعلن الإمام احتجاجه على الحكومة  قائلاً: (لقد بيضتم وجه جنكيز المغول).
وقد ترك هذا البيان أصداءاً مدوية في كل إيران، فكأنه بعث الحياة في القلوب، وأحيا العلم الإلهي بعد أن أكد على الإمداد الغيبي لله سبحانه.
لقد انتزع من روح الطلاّب ذلك الشعور الخائف من الموت والسجن والتشريد والحرمان، وسدّ الطريق على كل تلك المخاوف أن تسلل إلى الحوزة العلمية، ﴿ألا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
وكان الخائفون يخوفون الآخرين والذين يشعرون بالرعب ينزوون ويلقنون الناس الانزواء، أما الإمام فكان لا يخاف ويقول للآخرين لا تخافوا.
فكان لا يعرف للخوف معنى كان يقول: الإنسان الحرّ وهو يسعى للقاء الله أحرى له أن يلقاه شهيداً).
لقد بعث الروح في جسم الحوزة العلمية, حيث تغير حال القرآن من محجور إلى مشهور، واستحالت وعادت السنّة تنبض بالحياة, والدين الإلهي أصبح ديناً مأنوساً يعيش بين الناس في الميادين.
وإذا به يرفع بيد (جوهرة) وباليد الأخرى سيفاً، وأصبح القتل والاستشهاد والنفي والإبعاد جزءاً من الدين.. لا في حياة الطلاب بل في سيرة الأساتذة والمدرسين.
وكان الإمام إذا ما أطل شهر رمضان المبارك يجعل من رسالة الحوزة العلمية في نشر أحكام الشريعة الإلهية من أجل إنقاذ إيران المستضعفة من الخطر.
وقد انطوى خطاب الإمام أيضاً على محور هام هو التأكيد على خطر الصهيونية.
وطالما أكد أنه ما دام هذا الخطر قائماً فإن الإسلام في حكم الموتى، وإنه لن ينبعث ما دام هذا السم في أرض إيران الإسلامية.
وطالما قال أيضاً: النظام البهلوي عميل لأمريكا وإسرائيل وما دام هذا النظام قائماً فإن الشعب لن ينال الصلاح ولا الفلاح.
وشيئا فشيئاً انتشرت تعاليم الإمام المضيئة.. انتشرت لتضيء أفكار الجميع.. كأنها نبع يسقي فسائل المذهب الذابلة..
إنها كالماء الذي تتشربه الأرض فتمدّ جذور الأشجار بالحياة، فتتفتح براعم ويشتد عودها وتنشر ظلالها وتؤتي ثمارها.
كان يقول: إن دماءكم تسقي فسائل دينكم فيعلو مجده ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾.
إنّ دماء الشهداء هي(ثار الله) الذي لا يعرف الفناء وسيبقى يفور حتى يبلغ غايته وهي (لقاء الله) ويكون الدين كله لله.
أجل لقد بعث الروح في الحوزة العلمية وانبعثت من جديد روح الشهادة والمنازلة التي رفعت شعار الإسلام.
ومن هنا نرى نسبة السجناء ترتفع في شهر رمضان المبارك وشهر محرّم الحرام، فتنحسر الشرور الأخلاقية في هذين الشهرين وترتفع نسبة الاعتقالات في صفوف العلماء وترتفع إحصاءات (الجرائم) السياسية ويرتفع عدد السجناء والمبعدين.
ولم يحفظ لهذه الأمة كتابها العزيز إلا شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}.
ولم يحفظ لهذه البلاد دينها غير محرّم وصفر حيث الدماء تفور و(ثار الله)  ولم يحرس إيران في الحقيقة سوى القرآن والعترة.. هذان الأمران اللذان أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله بالتمسك بهما في قوله صلى الله عليه وآله (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي).
هذان الأصلان اللذان كانا ينشدان من يتمسك بهما وينطق باسمهما، فلبى الإمام هذا النداء ونهض لمسؤولية الأداء.
لقد أنهى الإمام غربتهما، بعد أن نهض بمسؤوليته الإلهية مستعداً لبذل الدماء مستعداً للإبعاد والنفي والتشرّد، من أجل أن يعود الإسلام من غربته إلى أرض الوطن..
وهل وطن الإسلام سوى قلب المسلمين.. نعم نهض من أجل أن يتحقق هدف العودة.. عودة الإسلام إلى القلوب.
وكان (قدس سره) يبتعد عن وطنه من أجل أن يعود الإسلام إلى وطنه.. من أجل أن يعود إلى القلوب... وما نراه اليوم هو آثار من جهاد ذلك الإنسان المخلص والروح العظيمة فليحشره الله مع الأنبياء والأولياء.
طبعاً مراجع الدين والعلماء والأساتذة حرّروا ووقعوا بيانات وهم أيضاً عانوا الكثير من المشاق(شكر الله سعيهم) وأنهم لم يتركوا قائد الثورة وحيداً.
ولذا فإن الإمام وعندما أطلق سراحه في 25 خرداد 1343ﻫ.ش وجاء إلى قم خطب في المسجد الأعظم قائلاً: (إنني أقبل أيدي مراجع التقليد).
إن مراجع الدين تعاونوا مع الإمام وواكبوا خطاه ولكن هناك فاصلة كبيرة بينه وبينهم:
وما بين بدري وبدر السماء         اختلاف الثريا وهذي الثرى
ولقد حاول النظام الشاهنشاهي الظالم إضعاف الحوزات العلمية واختراقها ومن ثم إفراغها من محتواها من خلال اجتذاب بعض العلماء وربطهم بالحكم.
وقد اتصلوا ببعض العلماء ودعوهم إلى التدريس في الكليات والجامعات فقد اتصلوا بالمرحوم الشيخ محمد تقي الآملي لتدريس العلوم العقلية والنقلية وعندما اعتذر لهم بتقدم سنّه أجابوا أن الطلاب سيحضرون إلى منزلك مع أن هذا لم يكن معمولاً به في نظام الجامعة.. حتى أنه فكر بالسفر خلاصاً من المضايقات.
كما اتصلوا بالعلاّمة رفيعي لكنه طردهم وتمثل بقول الشاعر:
اغرب وانصب فخاخك لطير آخر
فالعنقاء شاهق عشها..
إننا نذكر هذه المواقف لندرك الظروف الخطيرة، التي نهض فيها الإمام ومدى وحشية النظام الشاهنشاهي.
فالمرحوم محمد تقي الآملي عاش حياة المنفى منذ نعومة أظفاره, لأن (رضا خان) أراد في البداية إعدام والده، ولكن الحكومة كانت تتهيب ذلك منذ إعدام آية الله الشيخ فضل الله النوري، فكان دمه فائراً في عروق المجتمع ولم تكن الحكومة لتجرأ على تكرار تلك الجريمة، لهذا اكتفت بإبعاد والده ـ والد الشيخ محمد تقي الآملي ـ ولذا عانى الأخير من حياة المنفى في طفولته، ولم يكن أمامه بعد أن حاولت الحكومة مضايقته سوى التوسل بالدعاء.
في تلك الأجواء الموحشة نهض الإمام بمسؤوليته وقاد حركة المواجهة ضد الطاغوت، واستطاع بتوفيق الله أن يطوي بساط الظلم وأن يرمي به في وادي النسيان فـ(طوبى له وحسن مآب).


ارسل هذا الخبر الی الاصدقاء