حديث للدكتورة فاطمة الطباطبائي، حول الامام الخميني و كتاب جنود العقل والجهل

حديث للدكتورة فاطمة الطباطبائي، حول الامام الخميني و كتاب جنود العقل والجهل

الّف سماحة الامام الخميني الكتاب المذكور وهو في الاربعين من عمره الشريف، العمر الذي يكتمل فيه الانسان، وكان قد حررّ قبل ذلك، ثلاثة كتب عرفانية، عندما بلغ الثامنة والعشرين وهي: شرح دعاء السحر، تعليقة على الفوائد الرضوية وكتاب هام وجامع باسم: مصباح الهداية.
كان الامام الخميني (قدس سره) منشغلاً في الفقه وفي الوقت ذاته، توجه نحو الفلسفة – والعرفان النظري. اخذ الفقه عن استاذه الكبير البارز آية الله عبدالكريم الحائري اليزدي، الذي كان الامام يرتبط به بعلاقة خاصة، واخذ الفلسفة- عن الحاج السيد ابوالحسن الرفيعي، اما الاخلاق والعرفان، فقد اخذهما عن عالمين بارزين في عصره.
ذكر البعض انه من المحتمل ان استاذ الامام كان آية الله الميرزا جواد الملكي التبريزي، الذي كان بدوره تلميذاً للعارف الكبير الملا حسين قلي الهمداني، في السير والسلوك، حيث تتلمذ على يديه في الاخلاق والعرفان العملي، وان الامام حضر حلقات درسه في الاخلاق مدة ثلالث سنوات، تقريباً باستمرار.. الاّ ان البعض الآخر لايوثق ذلك. باَي حال، اوصى الامام الخميني (قدس سره) بدراسة تراث وكتب الاستاذ المذكور، بعد رحيله، كدليل للخَطْو في طريق السير والسلوك، حيث قال سماحته "طالع كتب الشيخ الجليل القدر، العارف بالله، الحاج ميرزا جواد التبريزي، من العلماء المعاصرين، عسى –ان شاء الله- تبتعد عن الاضطراب والتعسف" ..ذكروا حكايات رائعة، مُثيرة فيما يتعلق بحالات المرحوم الملكي التبريزي. فقد كان من العُبّاد المتهجدين كثيراً والبكائين في عصره، وكان مستأنساً بـ (حافظ)، الشاعر الايراني، العارف الشهير، حيث داوم على ترديد بعض ابياته بحرارة وحرقة كثيرة خلال (قنوت) صلوات النافلة.
ان كتب: المراقبات، اسرار الصلاة ورسالة لقاء الله، للميرزا جواد الملكي التبريزي، في متناول اليد. من الجدير بالذكر ان استاذ الامام في العرفان النظري كان آية الله الشاه آبادي، ومما يُروى حول طريقة تعرف الامام عليه، ان الامام الخميني (قدس سره) ذات يوم التقى في قم بالمرحوم الهي، من شخصيات قزوين في مسلك العرفان، حيث شاهد الشاه آبادي الكبير، استاذ الامام، حاضراً. يذكر الامام انه التقى به في المدرسة الفيضية وسأله سؤالاً عرفانياً، فبدأ الاستاذ بالجواب... عندها ادرك الامام، ان الاستاذ متبحر في ذلك. حينئذ طلب منه الامام (قدس سره)، ان يدرس عنده. فلم يقبل.. فلما اصّر الامام على الطلب، قبل الاستاذ ان يتتلمذ الامام لديه في الفلسفة، لانه اعتقد ان الامام يطلب الفلسفة. عندما رضي الاستاذ بتدريس الفلسفة اوضح سماحته (قدس سره) انه درس الفلسفة ولم يأتِ لدراستها عنده! والغرض من ذلك دراسة العرفان وشرح الفصوص!
فأبى الاستاذ، لكنه قبل بعد اِلحاح كثير.. والنتيجة، ان الامام الخميني تتلمذ على يديه سبع سنوات تقريباً بصورة دائمة، درس فيها كتب منازل السائرين، شرح الفصوص ومفاتيح الغيب. كان الامام يعتبره العارف الكامل، ويتطرق اليه بـ "روحي فداه" ..لان الاستاذ، في الحقيقة كان له حق الحياة الروحانية بالنسبة للأمام، ولاشيئ يساوي ذلك من الشكر. ذكرت الدكتورة الطباطبائي، من المحتمل، ان للأمام استاذاً قبل المرحوم شاه آبادي، مجهولاً لحد الأن!.. بعد دراسة العرفان النظري والخَطْو في السير والسلوك، قام الامام الخميني بتحرير عدة كتب، وخلّف لنا، تُراثاً، في العرفان النظري: شرح دعاء السحر، مصباح الهداية الى الخلافة والولاية، التعليق على الفوائد الرضوية، هوامش على شرح الفصوص الحكم ومصباح الانس، تفسير سورة الحمد، وفي الاخلاق والعرفان العملي: شرح (الاربعون حديثاً) شرح جنود العقل والجهل، سر وأداب الصلاة. كما ويُصنف ديوان اشعاره، حسب العرفان النظري، الحكمة المتعالية والاخلاق، يُعتبر من التراث العرفاني للأمام، لكن هذا الكتاب، على العكس من "مصباح الهداية الى الخلافة والولاية" الكتاب العرفاني الأخر، ليس، تماماً، حول العرفان النظري، بل يضم في طياته مباحث في العرفان العملي ايضاً، وهو مفيد حداً ودليل لطالبي السلوك العرفاني.
ان مباحث الكتاب المذكور الاخلاقية، كجسر للوصول الى معرفة الله.. التي كانت غاية سلوك الامام الخميني، العملي القُصوى. لهذا، يمكن النظر الى هذا الكتاب، بانه يُعبّر عن اخلاق الامام العرفانية، ويتجلّى ذلك بتفاوته عن سائر الكتب التي قامت بتبيان المقامات والسلوك العرفاني وانتشرت بواسطة الصوفية، من انه مُفعم بآيات القرآن الكريم واحاديث الأئمة المعصومين عليهم السلام. كتاب "شرح جنود العقل والجهل" يحوي ست مقالات... اطولها، المقالة السادسة، حيث تضم خمسة وعشرين مقصداً، وكل مقصد يحتوى على عدة فصول.
الشيئ الذي اجهله، هو، مَن كان معلم عرفان الامام الخميني قبل أية الله الشاه آبادي؟ كان قد الّف شرح دعاء السحر والتعليقة وبعضاً من مصباح الهداية. ان اساتذة الامام في الحقول الاخرى معروفون بصورة كاملة، اما في موضوع العرفان، فلا علم لنا بذلك!
مايلفت النظر، ان الامام (قدس سره)، بما كان يحمله من خلفية عرفانية، قام بتحرير كتاب شرح جنود العقل والجهل وشرح (الاربعون حديثاً).. لذا، فالكتاب الراهن، يتمتع بقيمة واهمية خاصة.
يتضمن هذا الكتاب التعريف بجيشين، العقل والجهل في وجود الانسان.
محور الكتاب، مبني على حديث للامام الصادق عليه السلام، عند سؤال احد مريديه، حيث اجاب (ع): ان طريق هداية الانسان وان تكون انساناً، هو معرفة العقل وجنوده وكذلك الجهل وجنوده، ومتى ما حصل ذلك فانه يتوصل الى الهداية. فالجهل مخلوق وليس عدمياً!... ثم يقدم رواية رائعة، مضمونها ان الله تعالى، خلق اولاً العقل وبعده الجهل. بهذه العبارة، يتضح ان الجهل مخلوق كالعقل! في الوقت الذي نعتقد فيه ان الجهل شيئ عدمي! واذا ما خطونا على ذلك، نرى في نظام الوجود شطرَين، شطر تتواجد فيه قدرة الله وجنود الله تعالى وشطر يتواجد فيه ابليس و جنوده. هاتان القوتان متصارعتان! ونحن بانتظار النهاية ونتيجة هذا الجدل!
بلاشك، ان هذه الرؤية نوع من الشرك! مثل هذا التصور الذي يُشير الى وجود قدرتين حاكمتين في العالم، احداهما الله عزوجل وجنوده، والاخرى ابليس وجنوده.. هو الشرك بعينه!.. اعتقد ان فهم هذا الموضوع بتأمل قليل، ينكشف لكل انسان ويتعرّى الوجه القبيح والمخلوق لهذا التصور البالي!.. فماذا نعمل اذن، للتصدي لهذه الرؤية الخاطئة اتي تتنافى وحقيقة الوجود؟... بحثنا في الجلسات السابقة، عدمية الجهل والشر وذكرنا ان الله تعالى خالق الخير وان الشر والجهل، يشكلان الجانب العدمي للخير ولا وجود مستقل لها!.. لكننا وبالنظر لهذا الحديث يمكننا الحصول على تصور آخر للحقيقة. لذا، لانستطيع بسهولة التعبير من ان الجهل وجود عدمي، لما جاء في الحديث عن خلقة العقل والجهل وببيان مصطلح" الخلق" للجهل.
-نظر الامام الخميني (قدس سره) حول عدمية الجهل:
مما ذكره الامام (قدس سره)، حديثاً عن الامام الصادق عليه السلام، مضمونه ان الله تعالى خلق العقل وهو اول مخلوق في عالم الارواح، جهة القسم الايمن من العرش، من نوره، حيث نُسبت خلقه وايجاد العقل الى الله تعالى، ونعلم ان (الله) هو الذات المستجمع لجميع صفات الباري عزوجل، اي، ان الخالق بجميع صفات جماله وجلاله وبكل مالديه من قدرة، خلق العقل، والعقل الاول، مخلوق من عالم المجردات. إذن، خلق الله تعالى، اولاً، العقل من بين المجردات.. والجهل من بحر مالح، مر.. جنس العقل النور وجنس الجهل الظلام، وكل موجود يعمل حسب ما تقتضيه خلقته، وهكذا فالجهل يعمل بما تقتضيه خلقته (بحر مظلم اجاج).
ان الله تعالى مبدأ خلقة العقل واول مخلوق من ذوات الارواح.. وقد اعطاه الله، لاطاعته له، خمسة وسبعون جيشاً ليعمل في نظام الخلق، ووهب مثل هذا المخلوق (العقل) للأنسان. الى جانب ذلك، خلق الجهل بخمسة وسبعين جيشاً، لكنه تعالى انذر الانسان بالابتعاد عن الجهل وجنوده واوصاه باتباع عقله، واعتبار ابليس وجنوده اعداء له.
اذا ما نظرنا الى الجهل بمثابة سم زُعاف للجان، وانه مضر لهذا الحيوان، الاّ ان وجود السم المذكور لذات الجان لازم وضروري، وخَلْق الجان مع السم ضمن مجموعة الخليقة، لازم وضروري ايضاً، مثلما ان حدة السكين، كمال للسكين، اما بالنسبة ليد الانسان خطيرة ووخيمة! لذلك، فان الجهل وجنوده يؤدون واجبهم في عالم الوجود، وتواجدهم في كل عالم الخليقة ضروري، فالانسان وابليس وكذلك العقل والجهل، يُخلقون لينشط كل واحد منهم حسب ما اختص به من واجبات، وعدم الخروج عن ذلك. الامام (قدس سره) ينقل كلاماً رائعاً عن المرحوم شاه آبادي، بأن ابليس بمثابة كلب لباب الله تعالى.. وكما هو معلوم، ان واجب الكلب منع دخول الغرباء.. واجب ابليس هو نفسه! فطريق دخول هذا البيت، هو (القرب) من صاحب البيت او اذنه، ويمكن ذلك بالتحكم بالكلب والسيطرة عليه.. حينها يعرب الانسان المعتقد بالله عزوجل، من انه على عتبة (البيت) ويدعو الباري تعالى، ليحفظه من شر هذا الشيطان.

قسم الشؤون الدولية




ارسل هذا الخبر الی الاصدقاء