في خندق الجهاد والثورة

في خندق الجهاد والثورة

شهد الإمام الخميني في طفولته استشهاد والده نتيجة لدفاعه عن حقوقه وحقوق اهل منطقته ووقوفه في وجه الاقطاعيين وعملاء الحكومة آنذاك. إنّ أُسرة الإمام ألِفت ـ في الحقيقة ـ الهجرة والجهاد في سبيل الله منذ القدم.


لقد كان لروحية النضال والجهاد في سبيل الله جذور تمتدُّ الى الرؤية الاعتقادية والتربية والمحيط العائلي والظروف السياسية والاجتماعية التي احاطت بحياة الإمام، إذ بدأ جهاده منذ صباه، واخذ هذا الجهاد يتواصل ويتكامل بصور مختلفة جنباً الي جنب تكامل الجوانب الروحية والعلمية في شخصيته من جهة، وتطور الاوضاع السياسية والاجتماعية في ايران والمجتمعات الاسلامية من جهة اخرى. وفي عامي 1961 ـ 1962 وفّرت احداث مجالس الاقاليم والمدن الفرصة ليلعب دوراً في قيادة حركة علماء الدين. وبهذا النحوانطلقت انتفاضة الخامس من خرداد ـ الخامس من حزيران 1963 ـ التي شارك فيها العلماء وابناء الشعب معتمدة علي دعامتين اساسيتين، اولاهما: قيادة الإمام المطلقة للحركة، وثانيتهما: اسلامية دوافع الانتفاضة واهدافها وشعاراتها، لتمثل فصلاً جديداً في جهاد الشعب الايراني؛ ذلك الفصل الذي عرف في العالم اجمع باسم الثورة الاسلامية.
لقد ولد الإمام الخميني في وقت كانت ايران تمرُّ فيه بأقسى ادوار تاريخها. فالحركة الدستورية تعرضت للضياع نتيجة دسائس ومعارضات عملاءِ الانجليز في البلاط القاجاري والصراعات الداخلية وخيانة بعض
المتغربين وتعرّض العلماء ـ الذين كانوا يمثلون طليعتها ـ الى الاقصاء من ساحة الاحداث بمختلف انواع المكائد ليعود النظام ملكياً مستبداً مرة اخرى. كذلك فإنَّ الطبيعة العشائرية التي كانت تتسم بها العائلة القاجارية المالكة، وضعف الحكام وعدم صلاحيتهم أدّى الى تدهور اقتصادي واجتماعي شديدين في ايران وأطلق ايدي الاقطاعيين والاشرار لسلب الامن والامان.
وفي ظروف كهذه كان العلماء يمثلون الملاذ الوحيد للناس في مختلف المدن والمناطق. وكما اشرنا سابقاً فقد شهد الإمام الخميني في طفولته استشهاد والده نتيجة لدفاعه عن حقوقه وحقوق اهل منطقته ووقوفه في وجه الاقطاعيين وعملاء الحكومة آنذاك. إنّ أُسرة الإمام ألِفت ـ في الحقيقة ـ الهجرة والجهاد في سبيل الله منذ القدم.
يستعرض الإمام الخميني بعض ذكرياته عن الحرب العالمية الاولى ـ وكان حينها يبلغ من العمر اثني عشر عاماً ـ فيقول:
إنَّني اتذكر كلتا الحربين العالميتين.. كنت صغيراً الا اني كنت اذهب الى المدرسة وقد رأيت الجنود الروس في المركز الذي كان في (خمين) رأيتهم هناك واذكر كيف تعرضت بلادنا للاجتياح في الحرب العالمية الاولي .
وفي موضع آخر يذكر سماحته اسماء بعض الاقطاعيين الظالمين الاشرار الذين كانوا يمارسون النهب والاعتداء على اعراض الناس واموالهم مدعومين من قبل الحكومة المركزية:
كنت في حرب منذ طفولتي ... فقد كنا نتعرض لهجمات اشرار من امثال زلقي ورجب علي ، وكانت عندنا بندقية، أذكر أني كنت اقارب البلوغ آنذاك فكنت اذهب مع البقية لاتخاذ مواقعنا في الخنادق المعّدة للدفاع ضد هجوم اولئك الذين كانوا يقصدون الاغارة علينا. نعم كنا نذهب هناك ونتفقد الخنادق .
ويقول سماحته في موضعٍ آخر:
لقد كنا مضطرين الي اعداد الخنادق في خمين ـ المنطقة التي كنا نعيش فيها ـ وكانت عندي بندقية، غير اني كنت لا ازال حينها يافعاً لم اناهز الثامنة عشرة بعد، وكنت اتدرب على البندقية واحملها وبما يتناسب مع سني. نعم كنا نذهب للتحصّن في الخنادق ونواجه هؤلاء الاشرار الذين كانوا يغيرون علينا. لقد كان
الوضع متسماً بالفوضى والهرج والمرج، ولم يكن لدى الحكومة المركزية القدرة علي السيطرة على الاوضاع، ... وفجأة سيطروا على
خمين فهبّ الناس لمواجهتهم وحملوا السلاح وكنت من بين من حملوا السلاح .
كان انقلاب رضاخان في 22 شباط 1921 م. مخططاً ومدعوماً من قبل الانجليز، كما تشير الى ذلك الوثائق التاريخية الثابتة والمؤكدة. ومع انه قضى على الحكم القاجاري ووضع حداً للقبلية والخوانين والاشرار، الا انه اقام حكماً مستبداً حكمت تحت مظلته بضعُ مئات العوائل مصيرَ الشعب المظلوم. وتصدت العائلة البهلوية للعب دور الخوانين والاشرار السابق.
سيطر رضا خان طوال عقدين من حكمه على نصف الاراضي الزراعية في ايران وثَبّتَ ملكيتها له رسمياً وشكّل هيكلاً ادارياً لادارتها والمحافظة عليها يفوق في تشكيلاته هيكلية الوزارات الكبرى، وسعى في هذا السبيل ـ ما وسعه ـ حل المشاكل القانونية المترتبة على نقل ملكية الاراضي ـ حتى الموقوفة منها ـ باسمه، فاصدر لذلك عشرات اللوائح والمصوبات القانونية من المجالس البرلمانية الصورية التي كان يأمر بتشكيلها. وقد شاع ذلك الى درجة جعلت ما كُتب عن حياته ـ من قبل مؤيديه أومعارضيه ـ يدور في اغلبه حول املاكه وما اقتناه من الحلي والمجوهرات والشركات والمراكز التجارية والصناعية.
كانت سياسة رضاخان الداخلية ترتكز الي اسس ثلاثة هي: الحكم العسكري والبوليسي العنيف، والمواجهة الشاملة للدين ورجاله، والعمالة للغرب، وراح يصرّ عليها الي اواخر عهده.
في مثل هذه الظروف هبّ علماء الدين الايرانيون ـ الذين تعرضوا للهجوم المتولصل من قبل الحكومات التي توالت علي الحكم بعد الحركة الدستورية، فضلاً عما تعرضوا له من قبل عملاء الانجليز والمثقفين من عملاء الغرب الفكريين ـ للدفاع عن الاسلام وحفظ كيانهم وكرامتهم، إذ هاجر آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري ـ نزولاً عند رغبة علماء قم الاعلام ـ الى مدينة قم تاركاً أراك، وبُعيد ذلك بفترة وجيزة هاجر اليها الإمام الخميني ـ الذي كان قد انهى وبسرعة دراسة المقدمات والسطوح في الحوزة العلمية في خمين واراك ـ وهناك ساهم عملياً بدور فعال في تحكيم وجود الحوزة الفتية، ولم يمض وقت طويل حتى عُدَّ الإمام الخميني من الفضلاء الاعلام في هذه الحوزة واشتهر في مجالات العرفان والفلسفة والفقه والاصول.
وكما اسلفنا إن حفظ كيان العلماء والمرجعية كان من الضرورات الملحة آنذاك، وذلك لافشال المخططات التي كان يُعدّها رضاخان ومَن بعده، والتي كانت تستهدف علماء الدين، والحيلولة دون تحقيقهم اهدافهم المتوخاة. وعلى هذا الاساس نرى الإمام ـ ورغم ما كان بينه وبين آية الله العظمى الحائري ومن بعده آية الله العظمى البروجردي من اختلاف في وجهات النظر بشأن بعض المسائل حول كيفية مواجهة الحوزات العلمية ومراجع التقليد للظروف المستجدة، وحول دور العلماء بهذا الشأن ـ يقف على الدوام بقوة وحزم الى جانبهما للدفاع عن المرجعية ودورها طوال فترة زعامتهما.
كان الإمام الخميني مولعاً بمتابعة القضايا السياسية والاجتماعية. وكان رضاخان قد اقدم في تلك السنوات ـ وبعد ان فرغ من تثبيت دعائم حكمه ـ على تنفيذ مخطط واسع للقضاء على مظاهر الثقافة الاسلامية في المجتمع الايراني. ففضلاً عن ممارسة انواع الضغوط ضد العلماء، اصدر اوامرة بإلغاء مراسم العزاء والخطابة الدينية ومنع تدريس المسائل الدينية والقرآن وإقامة صلاة الجماعة في المدارس، وورّج للهمس حول نزع الحجاب وفرض السفور علي النساء الايرانيات المسلمات. وقبل أن يترجم رضاخان اهدافه عملياً على مستوي واسع، بادر علماء الدين الايرانيون الملتزمون للاعتراض على ممارساته بوحي من معرفتهم بالاهداف غير المعلنة التي كان رضاخان ينوي تحقيقها. وللاعتراض على بعض هذه الممارسات، أقدم بعض علماء اصفهان المتلزمين بقيادة آية الله الحاج آقا نور الله اصفهاني عام (1927 م) على الهجرة الجماعية الى قم للاعتصام فيها، وترافقت هذه الحركة مع هجرة العديد من العلماء من مدنٍ اخرى الى قم ايضاً، وبالفعل فقد استمر هذا الاعتصام لمدة مائة وخمسة ايام (من 12 أيلول الى 25كانون الاول عام 1927 م) انتهى بعدها بتراجع رضاخان ـ ولوفي الظاهر ـ وتعهد رئيس الوزراء آنذاك (مخبر السلطنة) بتلبية مطالب المعتصمين. وباستشهاد قائد الانتفاضة في كانون الاول عام 1927 علي يد عملاء رضاخان انتهى الاعتصام عملياً.
اتاحت هذه الحركة الفرصة لطالب العلوم الدينيةالشاب روح الله الخميني الذي كان يتحلى باللياقات والاستعدادات اللازمة للمواجهة والتصدي، لان يطلع عن كثب ـ ومن خلال حضوره المباشر في صُلْب تلك الحركة ـ على اساليب المواجهة، وما يتعرض له العلماء من ظلم، علاوة على التعرف على ملامح شخصية رضاخان اكثر فاكثر.
من جهة اخري كانت قد حصلت قبل اشهر من هذه الحادثة، في آذار عام 1927، مشادة كلامية بين آية الله البافقي ورضاخان، حوصرت علي اثرها مدينة قم من قبل قوات الشرطة وتعرّض العالم المجاهد البافقي الى الضرب والنفي الى مدينة الريّ بأمر من رضاخان. هذه الحادثة والحوادث المشابهة وما كان يحصل في المجالس التشريعية في تلك الايام ـ خصوصاً الحركة الجهادية الدؤوبة التي كان يمارسها المجاهد المعروف آية الله السيد حسن المدرس ـ تركت تأثيرها على روح الإمام المرهفة الوثابة.
وحينما أصدر رضاخان امره بفرض الامتحانات علي طلاب العلوم الدينية في الحوزة العلمية بقم هادفاً القضاء على الحوزة، انبرى الإمام الخميني لفضح الاهداف الخفية لهذا الامر وتصدى لمعارضته وحذر بعض العلماء المشهورين ـ الذين عدوا ذلك الأمر ونتيجة لسذاجتهم امراً اصلاحياً ـ من مغبّة القبول به.
وللاسف فإن المؤسسة العلمائية الايرانية كانت تعيش آنذاك حالة الانزواء نتيجة الاعلام المكثف الذي كانت تمارسه اجهزة النظام الدعائية، وبفعل الظروف والاختلافات والاحباطات التي نجمت عن الحركة الدستورية. وقد وصل الامر الي درجة ان بعض المنحرفين فكرياً وطلاب الراحة والقشريين راح يعارض بشده تدريس ودراسة بعض المواد الدراسية الحوزوية كالعرفان والفلسفه التي تؤدي بالنتيجة الى إثارة الوجدان والبحث في المسائل والمصائب الواقعة.
وقد بلغ الضغط بهذا الاتجاه حدّاً عرّض الإمام الخميني الى تحمل ما لا يطاق من اجل تعطيل درسه في الفلسفة والعرفان والاخلاق، الامر الذي اضطره الى اعطاء دروسه في الخفاء فكان حصيلة تلك المساعي تربية شخصيات من امثال العلامة الشهيد آية الله المطهري.
ونتيجة لمقاومة العلماء وابناء الشعب الايراني، فشل رضاخان الي حد كبير، رغم كل ما اوتي من قوة، في تحقيق تطلعاته بالقضاء علي الاسلام وفرض السفور ومنع الشعائر الدينية، وفي الكثير من الاحيان اضطر الي التراجع والانسحاب.
بعد وفاة آية الله العظمى الحائري (30/ 1/ 1937 م) واجهت الحوزة العلمية في قم خطر التشتت والانحلال.
فبادر العلماء الملتزمون وعلي مدى ثمانية اعوام لادارة شؤونها وفي مقدمتهم أصحاب السماحة: السيد محمد الحجة، السيد صدر الدين الصدر، والسيد محمد تقي الخونساري رضوان الله عليهم. وفي هذه الفترة وخصوصاً بعد سقوط رضاخان تهيأت الظروف للمرجعية العليا، فاقترح ان يرفع آية الله البروجردي الذي كان من ابرز الشخصيات العلمية، لتسنم مقام المرجعية والحفاظ علي كيانها خلفاً لآية الله الحائري. وبسرعة تمَّ متابعة هذا الاقتراح من قبل تلامذة آية الله الحائري ومن ضمنهم الإمام الخميني، فسعى سماحته شخصياً في إقناع آية الله البروجردي للهجرة الى قم وقبول المسؤولية الخطيرة المتمثلة في تزعم الحوزة العلمية.
لقد ادرك الإمام الخميني ـ ومن خلال اطلاعه على حساسية الظروف السياسية التي يمرُّ بها المجتمع، والوضع الذي تعيشه الحوزات العلمية، وطبيعة حركة التاريخ التي كان يستلهمها ومن مطالعته المستمرة لكتب التاريخ المعاصر والمجلات والصحف الدورية الصادرة وقتئذ، وما كان يقوم به من زيارات متوالية الى طهران والمشاركة في مجالس العلماء الاعلام من امثال آية الله المدرس ـ أدرك بأن الامل الوحيد بالتحرر والنجاة من النكسة التي اعقبت فشل الحركة الدستورية، وبالخصوص بعد تولي رضاخان للسلطة، يمكن في تسلح الحوزات العلمية بالوعي، وقبل ذلك ضمان استمرار وديمومة وجود الحوزات العلمية وتمتين عُري الارتباط بين الجماهير والمؤسسة العلمائية.
لدى هجرة آية الله السيد البروجردي الي مدينة قم، عكف الإمام الخميني، باعتباره احد المجتهدين والمدرسين المعروفين في الحوزة العلمية بقم، على تحكيم اسس زعامة ومرجعية آية الله البروجردي، وقد بذل في هذا السبيل مساعٍ حثيثة. واستناداً لما ينقله طلابه واظب الإمام حينها علي حضور درس المرحوم آية الله البروجردي في الفقه والاصول.
ورغبة منه في متابعة مسيرته في تحقيق أهدافه السامية، اعدَّ الإمام الخميني بر فقه آية الله مرتضي الحائري في عام (1949 م) مقترحاً لإصلاح البنية العامة للحوزة العلمية، وقام بتقديمه الى آية الله البروجردي رَحمَه اللهُ وقد حظي هذا المقترح باستقبال ودعم تلامذة الإمام وطلبة العلوم الدينية الواعين.
ولوكان طبّق هذا المقترح عملياً في تلك الظروف، لأصبحت الحوزة العلمية مؤسسة ذات تشكيلات علميّة واسعة تسهل عليها اداء دورها المطلوب، غير أنَّ الخناسين المتظاهرين بالقداسة الذين رأوا ان هذا المقترح سيؤدي الى تعكير صفو اوضاعهم المترفة الهادئة، اصيبوا بالاضطراب فانطلقوا يعارضون ويحبطون حتى بلغ الأمر ان غيّر آية الله البروجردي نظرته الاولى ورغبته القلبية في ذلك، فاشاح اخيراً عن قبول هذا المقترح. ونتيجة لذلك تأثر آية الله مرتضى الحائري فسافر للاقامة في مشهد مدة من الزمن، غير أنَّ الإمام الخميني اصرَّ على البقاء رغم قسوة الظروف ورغم تألمه مما حدث وما تلاه من حوادث مشابهة، آملاً في حركة الوعي المرتقبة الوقوع في الحوزة العلمية.
قبل ثمانية أعوام من ذلك التاريخ وفي (1941 م) كانت ايران قد تعرضت للاحتلال من قبل جيوش الحلفاء، وقد استسلم المستبد ـ الذي أمضى عشرين عاماً في تجهيز قواته المسلحة منفقاً المبالغ الطائلة عسي' ان يتمكن بواسطتها من حبس الانفاس في صدور ابناء شعبه ـ أمام هجمات الغزاة، ووفقاً لما اقرّ به ابنه محمد رضا فإن جنوده قد بادروا للفرار من مختلف جبهات المواجهة امام اولي الاطلاقات التي اطلقتها قوات الحلفاء وقبل ان يتقابلوا معهم . وإثر ذلك أُرغم رضاخان علي التنازل عن العرش رغم كل ادعاءاته، وغادر البلاد مجبراً.
كان رد الفعل الشعبي متناقضاً، فمن جانب كانت الجماهير تعيش الحزن والانكسار نتيجة اجتياح قوات الحلفاء لاراضي بلادهم، وفي الوقت نفسه كانت مشاعر السرور والفرح البالغ تعمّ الجميع نتيجة سقوط المستبد

ـ الذي كانت امواله المنقولة التي جمعها من كدح الفقراء ومن سنين النهب للثروات الوطنية ـ تُجاوِز الستمائة وثمانين مليون من الريالات الايرانية (في ذلك الوقت) .
صدر الامر بتعيين الملك الجديد من السفارة الانجليزية
وبموافقة عضوآخر من قوات الحلفاء وهو روسيا، وكان الاختيار قد وقع على محمد رضا البهلوي، وبذلك بدأ فصل جديد من العذاب والعناء استمر لسبعة وثلاثين عاماً تميزت ببيع استقلال البلاد وعزتها.
امتاز العامان الاوّلان من حكومة محمد رضا بالتزلزل وعدم الاستقرار، الأمر الذي اتاح الفرصة للجميع بأن يلتقطوا انفاسهم، فبادرت الاحزاب والشخصيات السياسية الى توضيح اهدافها ومراميها، فتوجه البعض نحوالقومية التي كانت تتناغم مع اهداف الملك الشاب، في حين توجه جمع آخر من السياسيين نحوالنفوذ في هيكل الدولة والتشكيلات التشريعية. وشهدت الساحة آنذاك غياب بعض العلماء المجاهدين من امثال آية الله المدرس، الذين كان وجودهم وقتئذ سيمثل دعامة اساسية لخيمة الثورة الشعبية، إذ تعرضوا للتصفية الجسدية على ايدي ازلام رضاخان. كذلك فإنَّ الشيوعيين والاحزاب السياسية المرتبطة بالخارج كانت تعلن عن مواقفها بناءً على الاوامر الصادرة من موسكووغيرها.
اما الحوزة العلمية في تلك الايام فقد كانت عاجزة عن تحمل مسؤولياتها الاجتماعية ودخول ميدان الاحداث ـ كما اشرنا سابقاً ـ وذلك نتيجة للحملات المسعورة التي شنها رضاخان ضدها ونتيجة لنفوذ الانتهازيين والنفعيين فيها ممن ساهموا في انزوائها وعزلها عن المجتمع.
ومن الطبيعي ان لا تكون تلك حالة عامة شاملة، فقد كان جمع من الاخيار المجاهدين من امثال نواب الصفوي وانصاره ـ ممن كانوا يعتقدون بمبدأ تشكيل الحكومة الاسلامية ـ يعدّون العدّة في تلك الظروف المضطربة
استعداداً لخوض مرحلة الجهاد المسلح البطولي. وقد وصف الإمام الخميني غربة المجاهدين في سنوات الكبت والاختناق تلك التي مرت عليهم في عهد رضاخان بأبيات من الشعر قال فيها:
أين نتوجه للشكوى من جور رضاخان وقد حسبت الانفاس في الصدور كيف نصرح ولم يبق من الانفاس ما يمكننا من الصراخ!
انتهز الإمام الخميني الفرصة المتاحة فقام بتأليف ونشر كتابه كشف الاسرار (عام 1943 م) الذي تعرّض فيه الذكر المآسي التي تميزت بها فترة العشرين عاماً من الحكم البهلوي ودافع فيه عن الاسلام والمؤسسة العلمائية، وازال الشبهات التي اثارها المنحرفون، ونوّه في كتابه هذا الى فكرة الحكومة الاسلامية وضرورة النهوض لاقامتها.
ثم اصدر سماحته وبعد عام من ذلك التاريخ (نيسان 1944 م) ما يمكن اعتباره اول منشور سياسي له، طالب فيه ـ وبصراحة ـ علماء الاسلام والأمّة الاسلامية بالنهوض والانتفاضة العامة. ويمكن القول بأن لهجة البيان ومضمونه وطبيعة المخاطبين الذين خاطبهم تشير كلها الى أنَّ الإمام لم يكن يتوقع قياماً وشيكاً من الحوزة في مثل تلك الظروف المؤسفة التي كانت تمر بها. وان الدافع وراء اصرار هذا المنشور كان دق اجراس الخطر وتنبيه طلبة العلوم الدينية الشباب لحقيقة ما يدور حولهم . وكما كان متوقعاً لم يتلق الإمام جواباً مناسباً علي دعوته للنهوض والانتفاضه، غير أنّ بصيص الامل الذي دبّ في وجدان الطلبة، دفعهم للالتفاف حول الإمام، إذ وجدوا في محاضر دروسه الأنس والحقيقة.
هذا وكانت ملامح شخصية الإمام وموافقه السياسية قد اتضحت اكثر فاكثر بعد تحركه الاخير. وبهذا النحوكانت قد تشكلت بالتدريج نواة من تلامذة الإمام ممن يتفقون معه في الفكر والرؤية، وكان لا غلبهم ادوار هامة في احداث انتفاضة الخامس من حزيران 1963، وفي سنوات الاختناق التي تلتها.
وباختصار فإنّهم واصلوا مسيرتهم مع الإمام حتى ما بعد الثورة، فمن تمكن منهم من العبور بسلام من مضيق ما قبل الثورة وخرج سالماً من المعتقلات وأنواع التعذيب ـ الذي كان المجاهدون يعرضون له ـ ادّى دوره في المواقع الحساسة من هيكل النظام الاسلامي في أشدِّ الظروف حساسية وحراجة.
وطبقاً للوثائق التاريخية والمذكرات المتوافره، بذل سماحة الإمام جهده الجهيد في الجمال الحوزوي خلال فترة مرجعية وزعامة آية الله البروجردي رَحمَه اللهُ ـ فضلاً عن ممارسته دوره المعهود في التدريس والبحث وسائر المجالات المختلفة ـ للدفاع عن موقع المرجعية والحوزات العلمية من جانب، ونشر الوعي السياسي والاجتماعي وتحليلاته للمسائل السياسية الجارية والمبادرة لاطلاق التحذيرات في الأوقات المناسبة حول اغراض النظام الملكي والحيلولة دون نفوذ العناصر المنحرفة والمترفة الى اوساط الحوزات العلمية من جانب آخر.
وفي غضون ذلك، كان الإمام يواصل الاتصالات بالشخصيات السياسية الواعية في طهران من امثال آية الله الكاشاني ويتابع الاحداث بدقة بشتي السبل بما في ذلك متابعة جلسات مجلس الشورى الوطني والنشرات المهمة التي كانت تصدر وقتئذ.
عندما دبّ الهمس (عام 1949 م) حول تشكيل المجلس التأسيسي لتغيير الدستور واطلاق العنان للشاه، اشيع بأنّ آية الله العظمى البروجردي كان راضياً بتلك التغييرات المرتقبة وان مشاورات قد جرت بالفعل بينه وبين بعض المسؤولين بهذا الشأن، تأثر الإمام الخميني لهذه الشائعة فبادر للتحذير بصراحة ووضوح من مغبة هذا الامر، ثم بعث رسالة مفتوحة، اعدها بالتعاون مع بعض المراجع والعلماء الاعلام حينها الي آية الله البروجردي يستطلع حقيقة الأمر. الأمر الذي دفع آية الله البروجردي الى اصدار بيان كذّب فيه وجود اي اتفاق. وفي الوقت نفسه اصدر آية الله الكاشاني بياناً من منفاه في لبنان طالب فيه بضرورة الوقوف في وجه القرارات والخطوات التي يزمع الملك القيام بها.
وحينما جرت نتخابات الدورة السادسة عشرة لمجلس الشورى الوطني، وتمَّ انتخاب آية الله الكاشاني من قبل اهالي طهران، وقد ادى الائتلاف والتنسيق بين جناح آية الله الكاشاني والجبهة الوطنية الى ترجيح كفة الميزان لصالح انصار نهضة تأميم النفط ولغير صالح الملك، كذلك قام فدائيوالاسلام الذين كانوا يتمتعون بدعم آية الله الكاشاني، بعدة عمليات خاطفة لم يسبق لها مثيل تمَّ من خلالها انزال ضربات موجعة في هيكل الحكومة العميلة للملك. واعتماداً على هذه التأييد الذي توفر له استطاع الدكتور مصدق ان يتسنم قيادة البلاد، ثم انطلقت انتفاضة الثلاثين من تير 1331 (12 تموز 1952 م) في طهران، فتلفعت ايران بوشاح الفرح والسرور نتيجة تحقق مطلبها القديم بتأميم النفط، غير انه لم يمض وقت طويل حتى ظهرت ملامح عدم الانسجام في جبهة الائتلاف، وتفاقمت الاختلافات بين (فدائيي الإسلام) وآية الله الكاشاني، وقادة الجبهة الوطنية الى حد المواجهة احياناً، إذ اصرَّ المرحوم الكاشاني على رفض اقتراح دفع الغرامة للانجليز في مقابل تأميم النفط، وكان يعتقد بأنَّ على الإنجليز أنفسهم ان يدفعوا الغرامة لإيران عن نهبهم النفط الايراني لمدة خمسين عاماً، ولهذا السبب حذر سماحته الدكتور مصدق بشدة من مغبة التنازل أو المساومة في هذا الشأن.
من جانب آخر كان آية الله الكاشاني يعارض بشدة استبدال الانجليز بالأمير كان والشركات الأميركية في مجال تعدين النفط وسائر المجالات الاقتصادية في البلاد. في حين ان الغالبية من المسؤولين في حكومة مصدق كانوا يميلون بصراحة نحوهذا الاتجاه.
كذلك كانت مشاركة بعض العناصر غير الاسلامية في نهضة تأميم النفط والاعتماد على (حزب تودة) الشيوعي، من جملة الامور موضع الخلاف، إذ ادى نفوذ تلك العناصر المتزايد جنباً الى جنب تنامي صلاحيات رئيس الوزراء، الى تنامي وتيرة الاعلام المبرمج المعادي للاسلام، وبلوغ خيانات حزب تودة ذروتها وانزواء التيار المتديّن في النهضة مما اتاح الفرصة لامريكا للقيام بانقلابها الناجح في (19 آب 1953م) واعادة الملك ليمسك بزمام السلطة المطلقة، والتخلص من معارضية.
ويتضح من خطابات الإمام وكلماته التي ألقاها حول أحداث الانتفاضة الوطنية بأنَّ سماحته كان مدركاً هشاشة هذا الائتلاف مسبقاً.
حققت النهضة الوطنية انتصارات باهرة علي طريق تحقق اهدافها المعادية للاستعمار، الإ أنَّ عملية تأميم صناعة النفط كانت تنطوي على ثغرات مقطعية وزمانية حالت دون تحقيقها ـ منفردة ـ ديمومة النهضة على المدى البعيد. ان عدم إيمان التيار الوطني في النهضة بالشعارات والاهداف المطروحة من قبل التيار الديني الذي كان يحظى بتأييد الجماهير، وغياب القيادة الموحده، ونفوذ العناصر المنحرفة وغياب الاهداف السياسية والثقافية المشتركة التي باستطاعتها استقطاب الجماهير الايرانية المسلمة على المدى البعيد، ناهيك عن التحركات الأميركية والضغوط الخارجية. كل هذا كان من جملة العوامل التي حالت دون امكانية، استمرار النهضة.
لقد مثّلت نهضة تأميم النفط صورة مصغّرة للظروف السياسية والاجتماعية التي احاطت بالحركة الدستورية واتسمت بنفس نقاط قوتها وضعفها، لذلك واجهت المصير نفسه. حتى التيارات الدينية لم تكن تتصف بوحدة النظر والدعم الشعبي. إذ ان نشاط حركة فدائيي الاسلام وكذلك مساعي آية الله الكاشاني ليس فقط لم تكن تحظي بتأييد آية الله العظمي البروجردي المرجع والزعيم القوي آنذاك، بل كانت تعصف بها خلافات حادة ايضاً.
وفي ظروف كهذه لم تتمكن ايضاً المواقف الصريحة الداعمة التي وقفتها شخصيات معروفة من امثال آية الله العظمى الخونساري في قم والمواقف الضمنية المؤيدة من امثال الإمام الخميني من التأثير في مجرى الاحداث.
على ايّة حال قبل ان يتذوق الشعب الايراني حلاوة نهضة التأميم فوجئ بطعم المرارة الناجمة عن الاختلافات والحوادث المريرة اللاحقة التي ختمت بانقلاب (التاسع عشر من آب). ورغم أنَّ فدائيي الاسلام لم يلقوا السلاح الا أنّهم وبعد عامين ـ أي في (16 تشرين الثاني 1955م)، نتيجه لفشل عملية اغتيال حسين علاء، رئيس الوزراء آنذاك الذي كان يهمُّ بالسفر الى بغداد للتوقيع على حلف بغداد (السنتو) ـ تعرضوا للاعتقال وحكم على قادتهم بالاعدام في محكمة عسكرية سرية وذلك في شهر كانون الاول من عام 1955 م. ولم تثمر مساعي الإمام الخميني وسائر العلماء للحيلولة دون تنفيذ حكم الاعدام بهم.
هذه الاحداث المريرة تركت اثرها على روح الإمام الخميني المرهفة، الا انها مثلت تجربة قيمة للمراحل اللاحقة من حركته الجهادية.
اما الملك وبلاطه فقد أصبحوا بعد الانقلاب ـ وفي ظروف تختلف عن المرحلة السابقة ـ تحت الهيمنة الأميركية، إذ أخلى الانجليز مواقعهم للأميركان. وبسرعة تم تأسيس دائرة الأمن (السافاك) عام (1957م) وضرب المعارضين بقسوة، وتشديد الحكم القمعي لاعداد الظروف
الاجتماعية اللازمة لتنفيذ الاصلاحات الأميركية. وخلال الستينيات والسبعينيات راحت الشركات الأميركية تتسابق في التوجه الي الخليج الفارسي لاحتلال المواقع التي كان يتمتع بها الاستعمار الانجليزي. كذلك فإن اجواء الحرب الباردة والمنافسة الشديدة بين أميركا والاتحاد السوفيتي كانت قد زادت من حساسية منطقة الخليج الفارسي الستراتيجية، وكانت انظار البيت الابيض تتطلع الي الثروات النفطية الإيرانية والاقليمية، لذا أقدم ساسة البيت الابيض على تفويض شاه ايران لعب دور شرطي المنطقة والحفاظ على مصالح الغرب فيها، وقد تمَّ ترجيحه للعب هذا الدور على جميع الانظمة الاخرى في المنطقة من جميع الجهات. وكانت أميركا تسعى الي تحقيق هدف آخر من التحالف مع الشاه، وتوفير الدعم له. فالمواجهة بين الدول الاسلامية والكيان الاسرائيلي الغاصب كانت امراً لابد منه، لذا فإن الطبيعة الخيانية للعائلة البهلوية وشخصية الشاه محمد رضا، اعتبرت في تصورهم عوامل تساعد في امكانية الاستفادة من النظام الملكي لايجاد شرخ في صفوف العالم الاسلامي. وكان للنفط في هذا المخطط دور اساسي ايضاً، إذ أن ازمة الطاقة كانت الأمر الشاغل للغرب في حالة وقوع مواجهة عسكرية بين الدول النفطية الاسلامية واسرائيل، لذا فإن توسيع عمليات التنقيب عن النفط في ايران، وزيادة استثماره وتقوية النظام الملكي كانت تعدُّ الضمانة الوحيدة للتقليل من الازمة المتوقعة في مثل هذه الظروف.
غير ان الهيكلية الاجتماعية والاقتصادية التقليدية في ايران المعتمدة على الزراعة بشكل اساسي، كانت تعتبر عائقاً اساسياً امام اجراء الاصلاحات الأميركية في ايران.
فإيران كانت تفتقر في تلك الظروف الى الاستعداد الكافي للتوسع في انتاج النفط وزيادة مدخولاتها النفدية من بيعه مستقبلاً ـ وهي الايرادات التي كان ينبغي ان تنفق في شراء التجهيزات العسكرية والسلع والبضائع الأميركية الاخرى ـ لذا فقد انهالت اللوائح والمشاريع والاقتراحات على مجلسي (الشيوخ والشورى) لتغيير الظروف وتهيئة الارضية في ايران. واستناداً لما ورد في الاعترافات الصريحة التي ادلى بها مسؤولوالنظام السابق وكذلك ما اظهرته الوثائق والمستندات التي تمت مصادرتها من وكر التجسس الأميركي (السفارة الأميركية السابقة) في ايران، فإنّ إعداد مضامين اغلب تلك اللوائح كان يتم إما في أميركا أو في سفارتها في ايران.
فكان مشروع الاصلاح الزارعي خطوة اختبارية اريد بها اعداد الارضية للمصادقة على اصول ثورة الملك البيضاء. اجل تمَّ اختيار المشروع كأول خطوة مدروسة، إذ رافقت طرح مشروع الاصلاح الزراعي حملة دعائية مكثّفة وشعارات طنانة كالوقوف بوجه الباشوات والاقطاعيين، وتقسيم الاراضي بين الفلاحين المحرومين، وزيادة الانتاج ... الى ما شابه ذلك. ومن هنا كانت المعارضة للاهداف الخفية لمشروع الاصلاح الزراعي، تعدُّ بمثابة دعم الاقطاعيين وملاكي الاراضي الكبار وكانت تقمع بشدة.
تزامنت التحركات الاميركية والشاهنشاهية الجديدة عام (1961 م) مع وقوع حادثتين مؤلمتين. ففي الثلاثين من آذار1961 م، التحق آية الله العظمي السيد البروجردي بالرفيق الاعلى، الذي اعادت خدماته الجليلة وشخصيته العلمية، للمرجعية موقعها المتميز باعتبارها اهم ملاذ ديني للجماهير في ميدان الحياة الاجتماعية في ايران. فوجود سماحته بحدِّ ِذاته كان يمثل عائقاً اساسياً امام تحقيق النظام الملكي لمخططاته. ومن هنا اعتبرت وفاته خسارة لا تعوض. وبعد عام تقريباً ودع الحياة ايضاً العالم المجاهد آية الله الكاشاني، الذي كان اسمه ذات يوم يبعث الرعب في كيان الشاه.
اما الإمام الخميني ـ وكما هو ديدنه - فإنه لم يخطُ خطوة واحدة في سبيل المرجعية بعد وفاة آية الله البروجردي، رغم التفاف مجتمع الحوزة العلمية والجماهير حوله، بل رفض بشدة الاقتراحات والخطوات التي قام بها بعض اصحابه ومريديه في هذا الاتجاه. وكان ذلك في وقت كان الإمام الخميني قد اتمَّ تعليقته على كتاب العروة الوثقى منذُ خمسة اعوام قبل وفاة آية الله البروجردي، وفي تلك السنوات بالتحديد كان سماحته قد كتب حاشية على كتاب وسيلة النجاة لتكون رسالته العملية.
ان النظرة الزاهدة التي كان الإمام الخميني يتحلى بها تجاه الدنيا، وإعراضه عن المقامات والمناصب الاعتبارية الدنيوية، يمكن استشرافها من بحوثه الأخلاقية والعرفانية المعمقة التي وسمت آثاره المكتوبة، كشرح الاربعين حديث وسرِّ الصلاة وآداب الصلاة التي كان قد كتبها قبل سنوات من ذلك التاريخ.
بعد ارتحال آية الله البروجردي وتجزؤ المرجعية الكبرى، أظهر النظام الملكي نشاطاً اكبر واندفاعاً في تحقيق الاصلاحات التي كانت أميركا ترغب فيها، كما انه سعى في الوقت ذاته الي إخراج المرجعية من ايران. غير ان النظام كان مخطئاً في حساباته.
ففي (8 تشرين الاول 1962 م) صادقت وزارة اسد الله علم على تعديل لائحة مجالس الاقاليم والمدن، وتغيير بعض مضامينها كاشتراط اسلامية المرشحين، والقسم بالقرآن الكريم، واشتراط الذكورة في المرشحين والناخبين. لقد كانت المصادقة على اشتراك النساء في الانتخابات
تخفي وراءها اهدافاً اخرى. كما أن حذف وتغيير شرطي الذكورة والاسلام كان يراد منه ـ علي وجه الدقة ـ ادخال العناصر البهائية في المراكز الحساسة من هيكل النظام الحاكم.
وكما اشرنا سابقاً، ان دعم الملك للكيان الصهيوني وتوسيع العلاقات الايرانية الاسرائيلية كانت شروطاً أميركية في مقابل توفير الدعم للملك، ولتحقيق هذه الشروط كان لابد من زيادة نفوذ اتباع المسلك الاستعماري البهائي في السلطات الايرانية الثلاث.
وبمحض انتشار خبر المصادقة على اللائحة المذكورة، بادر الإمام الخميني ومجموعة من العلماء الاعلام في قم وطهران ـ وبعد التشاور ـ الي اعلان معارضتهم العامة والشامله لها.
كان للامام الخميني دور فاعل في توضيح الاهداف الحقيقية للنظام الملكي والتنبيه الي خطورة الرسالة الملقاة علي عاتق العلماء والحوزات العلمية في تلك الظروف.
اثارت البرقيات والرسائل المفتوحة المتعرضة التي بعث بها العلماء الى الملك والى رئيس الوزراء ـ اسد الله علم ـ موجة عارمة من الدعم والتأييد لدى طبقات الشعب المختلفة. كما أنَّ برقيات الإمام الخميني التي بعث بها الى الملك ورئيس الوزراء تميزت باللهجة الحادة والحازمة
والمحذرة. يقول سماحته في احدى تلك البرقيات: إنّني انصحكم مجدداً بأن تطيعوا الله تعالى وتنصاعوا للدستور، وان تحذروا العواقب الوخيمة لمخالفتكم للقرآن واحكام العلماء الاعلام وزعماء المسلمين وانتهاك الدستور، فلا تعِّرضوا البلاد عمداً وبلا مبرر للخطر، والإ فإن علماء الاسلام سيقولون رأيهم فيكم .
بادر النظام الملكي بادئ الأمر الى التهديد وتكثيف الاعلام المعادي ضد المؤسسة العلمائية. وصرح اسد الله علم في مقابلة اذاعية اجريت معه بالقول إنَّ الحكومة لن تتراجع عن تنفيذ مشروعها الإصلاحي الذي بدأته.
ولكن مع ذلك فإن الحركة الشعبية تزايدت باطراد، فعُطلت الاسواق في طهران وقم وبعض المدن الاخري،
وتجمع الناس في المساجد للتعبير عن دعمهم وتأييدهم لحركة العلماء.
لم يمض اكثر من شهر ونصف على بداية الحادثة، حتى تراجعت الحكومة عن تنفيذ مشروعها، وابرق الملك ورئيس وزرائه برسالتيهما الجوابية الى العلماء هادفين التودد اليهم وكسب رضاهم، غير أن النظام الملكي امتنع عن مخاطبة الإمام الخميني لما عرفه من قوة الشخصية وثباتها.
رأى بعض العلماء في الحوزة العلمية بأن موقف الدولة هذا مقنع، وطالبوا بوقف الانتفاضة؛ غير أنَّ الإمام الخميني عارض ذلك بشدة، فسماحته كان يعتقد بأنَّ على الحكومة أن تبادر لالغاء لائحة مجالس الاقاليم والمدن بشكل رسمي وعلني. ففي رسالته الجوابية على سؤال بعض الكسبة والتجار من اهالي قم حول لائحة مجالس الاقاليم والمدن كان سماحته قد كشف النقاب عن الاهداف التي رامها النظام من وراء هذه اللائحة واشار الى ان المقصود ادخال عناصر البهائيين والجواسيس الاسرائيليين في تركيبة النظام الايراني، اذ جاء في جانب من رسالته: إنَّ الشعب المسلم لن يسكت مالم تتدارك هذه الاخطار، ولورضي احد بالسكوت فسيكون مسؤولاً امام الله القادر، وسيحكم عليه بالزوال في هذا العالم كما حذر سماحته في ذات الرسالة نواب مجلسي الشيوخ والشورى من مغبّة التصويت لصالح هذه اللائحة قائلاً: إنّ الشعب المسلم وعلماء الاسلام أحياء واعون، وانهم سيقطعون أيّ يدٍ خائنةٍ تمتد للمساس باصول الاسلام واعراض المسلمين .
واخيراً اذعن النظام الملكي للهزيمة، ففي 28 تشرين الثاني 1962 م، ألغت الحكومة اللائحة السابقة، وأبرقت للعلماء والمراجع في طهران وقم تعلمهم بالأمر. غير أنَّ الإمام الخميني أصرَّ مجدداً على مواقفه السابقة وأعلن في اجتماعٍ ضم العلماء الاعلام في قم بأن إلغاء اللائحة بشكل سرّي أمر غير كافٍ وأكد بأنَّ الحركة ستتواصل مالم يُعلن أمر الإلغاء في أجهزة الاعلام. وفي اليوم التالي، اُعلن خبر إلغاء لائحة مجالس الاقاليم والمدن في صحف النظام، واحتفلت الجماهير بأول نصر كبير تحقق لها بعد نهضة تأميم صناعة النفط.
وفي حديث له ـ حيث يعيش الشعب افراحه هذه ـ قال الإمام الخميني: الهزيمة الظاهرية ليست مهمة، المهم هو الهزيمة الروحية. وإن المرتبط بالله لايُهزم، بل الهزيمة لاولئك الذين تمثل الدنيا غاية آمالهم ... فالله لايهزم. ولا تهنوا ولاتحزنوا ... خلال الشهرين الماضيين اضطرتني الاحداث الى الاكتفاء بساعتين من النوم يومياً ... ومرة أخرى إذ رأينا أنَّ شيطاناً من الخارج استهدف بلادنا، فنحن كما نحن والدولة كما هي ... النصيحة من الواجبات ... فعلى العلماء ان ينصحوا الجميع، بدءاً من الملك وحتى آخر فرد في البلاد ... .
وهكذا كانت حادثة لائحة مجالس الإقاليم والمدن تجربة ناجحة وهامة للشعب الايراني، خاصة وقد تعرف من خلالها على شخصية تؤهلها سجاياها لقيادة الامة الاسلامية.
ورغم هزيمة الملك في حادثة مجالس الاقاليم والمدن، إلاّ ان أميركا واصلت الضغط عليه لتنفيذ الاصلاحات التي كانت تخطط لها. وفي مطلع عام 1963 م اعلن الملك عن مبادئه الاصلاحية الستة وطالب اجراء استفتاء عام بشأنها.
فاعلنت الاحزاب القومية عن موافقتها من خلال رفعها لشعار نعم للاصلاحات، لا للاستبداد كما أنَّ الشيوعيين أيضاً ـ وانطلاقاً من رؤيتهم بأن الاصلاحات الملكية ستسرع من مسير ديالكتيكية النظام الاقطاعي نحوالنظام الصناعي والرأسمالي ـ اعلنوا عن موقفهم المنسجم مع الموقف الذي اعلنته اذاعة موسكو، وأعتبروا اسس الثورة البيضاء اسساً تقدمية وهم انفسهم الذين نعتوا نهضة الخامس من حزيران بأنها حركة رجعية استهدفت الدفاع عن الاقطاعيين .
ومرة اخرى دعا الإمام الخميني المراجع والعلماء الاعلام في قم لدراسة الموقف والنهوض ثانية. لكنَّ اولئك الذين كانوا يرون المرجعية الدينية منحصرة في مباشرة الامور الدينية للناس لا تحمُّل المسؤولية في مواجهة المصائب والنوازل التي تحلُّ بالامة الاسلامية، لم يرق لهم امر النهوض. ورغم أنَّ اهداف النظام الملكي غير المعلنة من وراء ذلك الاستفتاء وتلك الاصلاحات كانت واضحة لشخص الإمام، وان المواجهة أمر لابدَّ منه، الا أنَّ اجتماع العلماء قرر بالاجماع فتح باب الحوار مع الشاه واستكشاف نواياه. كانت الرسائل المتبادلة بين الطرفين (الشاه والعلماء) ترسل بواسطة مبعوثي الطرفين للتفاوض، وفي عدة مراحل مكوكية. وفي لقائه لآية الله كمال وند، هدد الملك بأنَّ الاصلاحات سيتم تنفيذها باي ثمن ولوكان بسفك الدماء وتخريب المساجد !
في الاجتماع اللاحق للعلماء الاعلام بقم، طالب الإمام بتحريم المشاركة في الاستفتاء العالم الذي طرحه الملك، لكنَّ الجناح المحافظ الذي كان حاضراً في الاجتماع، عدَّ المواجهة في تلك الظروف بمثابة نطح الصخرة واعتبرها امراً عديم الجدوى. واخيراً ونتيجة لاصرار الإمام الخميني وثباته على موقفه، تقرر ان يقوم المراجع والعلماء بمعارضة الاستفتاء علناً وتحريم المشاركة فيه. وفي الثاني والعشرين من كانون الثاني عام 1962م اصدر الإمام بياناً شديد اللهجة، ادى انتشاره الى تعطيل البازار المركزي بطهران، وخروج الجماهير في تظاهرات معارضة ردّ عليها رجال الشرطة. ومع اقتراب موعد الاستفتاء المفروض، اتخذت المعارضة الشعبية ابعاداً جديدة. مما اضطر الشاه ـ ولاجل التخفيف من حدّة المعارضة ـ الى السفر الى قم.
كان الإمام الخميني يعارض بشدة فكرة خروج العلماء لاستقبال الشاه، بل وحرّم الخروج من المنازل والمدارس يوم وصوله الى قم. وكان تأثير هذا التحريم كبيراً الى درجةٍ جعلت المتولي لحرم السيدة فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم عليٰهِالسَّلاٰم، الذي يعتبر اهم منصب حكومي في المدينة، يمتنع عن الخروج لاستقبال الشاه، الامر الذي ادى الى عزله عن منصبه.
ولدى وصوله عبّر الشاه عن سخطه علي علماء الدين والجماهير بأشد العبارات سقوطاً وفظاظة، عبر خطابه الذي ألقاه في جمع من الموظفين الحكوميين وعملاء النظام الذين اصطحبهم معه من طهران.
وبعد يومين من زيارة الملك لمدينة قم، اجري الاستفتاء في وضع مؤسف، إذ لم يشارك فيه غير عناصر النظام وأزلامه. وقد سعى النظام من خلال وسائل اعلامه التي كانت تكرر اذاعة برقيات التهنئة التي بعث بها المسؤولون الأمير كان والدول الاوروبية، الى اخفاء فضيحته الناجمة عن اعراض الجماهير عن المشاركة في الاستفتاء.
واصل الإمام الخميني فضح النظام واغراضه ونواياه من خلال الخطابات والبيانات، فكان ضمن ما اصدره بيان حازم ومستدل عرف فيما بعد بـ بيان التسعة ، استعرض فيه مخالفات الملك وحكومته للدستور، وتوقع فيه ان تؤدي الاصلاحات الملكية الى تدهور الزراعة وضياع استقلال البلاد، ورواج الفساد والفحشاء كنتائج قطعية مسلّمة.
واستجابة لاقتراح الإمام الخميني، تم تحريم الاحتفال بعيد النوروز لعام 1342 (21 آذار 1963 م) اعتراضاً على ممارسات النظام. وقد أطلق الإمام الخميني في بيانه الذي اصدره بهذا الخصوص عبارة الثورة السوداء على ما سُميّ بـ الثورة البيضاء، كما أنّه فضح انصياع الملك للمخططات الأميركية الإسرائيلية، وكان سماحته قد اعلن في هذا البيان: وإني لا أرى حلاًّ سوى أن يُصار الى اقالة هذه الحكومةالمستبدة بجريرة مخالفة أحكام الاسلام وانتهاك الدستور، وتشكيل حكومةٍ ترتكز الى أحكام الإسلام وتعي معاناة الشعب الايراني. اللهم لقد أدّيتُ واجبي ـ اللهم قد بلّغت ـ واذا مُدَّ في عمري فإني سأُواصل اداء تكليفي باذن الله .
ان ادراك اهمية هذا الكلام لا يتسنى إلاّ لاولئك المطلعين على السجون الرهيبة والاضطهاد الذي كان سائداً في تلك الايام، إذ كان اقل انتقاد يقود الى السجن والتعذيب والنفي.
من جانب آخر فإن الشاه الذي كان قد طمأنَ واشنطن باعداد المجتمع الإيراني لتقبل الإصلاحات الأميركية واطلق على اصلاحاته اسم الثورة البيضاء، رأى ان معارضة العلماء له ستكلفه ثمناً باهظاً، لذا شرعت اجهزة الاعلام بشن حملة واسعة ضد العلماء والإمام الخميني وقرر الملك سحق النهضة.
وفي الثاني من فروردين 1342 ش (22 آذار 1963م) ـ الذي صادف ذكرى استشهاد الإمام جعفر الصادق عليٰهِالسّلاٰم ـ هاجم ازلام النظام المسلحين، متنكرين بملابس مدنية، تجمع طلاب العلوم الدينية في المدرسة الفيضية، ثم قامت قوات الشرطة بالهجوم علي المدرسة الفيضية مستخدمين اسلحتهم النارية فقتلوا وجرحوا الكثيرين من الطلاب. وفي الوقت ذاته تعرضت المدرسة الطالبية في تبريز لهجوم مماثل. وفي غضون تلك الاحداث كان منزل الإمام الخميني يستقبل كل يوم مجاميع كثيرة من الثوريين والجماهير الغاضبة التي كانت تأتي للتعبير عن تضامنها وتعزيتها ودعمها للعلماء وللاطلاع على آثار جريمة النظام في قم.
وكان الإمام الخميني يحمّل الملك شخصياً وبصراحة ـ اثناء خطاباته في الجماهير ـ المسؤولية الكاملة عن تلك الجرائم وعن التحالف مع إسرائيل، ويحثُّ الجماهير على القيام. وفي خطابه الذي ألقاه في الاول من نيسان عام 1963 م انتقد بشدة سكوت علماء قم والنجف وسائر البلاد الاسلامية ازاء جرائم الملك الاخيرة، قائلاً: ان السكوت اليوم يعني التضامن مع النظام المتجبر .
وفي اليوم التالي اي في الثاني من نيسان عام 1963 م اصدر الإمام بيانه المعروف تحت عنوان محبة الملك تعني النهب. وقد وضع الإمام في بيانه هذا ـ الذي يعدُّ من اشد بياناته السياسية لهجة ـ الملك في قفص الاتهام وأكَّد في خاتمة بيانه ان التقية في مثل هذه الظروف حرام، وان اظهار الحقائق واجب (ولوبلغ ما بلغ). وخاطب الإمام الخميني في بيانه هذا الشاه وازلامه قائلاً: لقد أعددت اليوم قلبي لتلقي طعنات حراب ازلامك، ولكني غير مستعد لقبول الظلم ولن ارضى بالخضوع أمام تجبر النظام .
كان الإمام الخميني قد اختار طريقه بوعي. ولديه الآن حصيلة غنية من التجارب السياسية والمواقف الجهادية الحلوة والمرّة. ويرى أنَّ بانتظاره وقائع خطيرة وان امامه طريقاً محفوفاً بالمخاطر. غير انه لا يتحرك بوحي من الماضي أو المستقبل. انه يفكر دوماً بأداء الواجب الشرعي رافعاً شعار العمل بالتكليف ولوبلغ ما بلغ.
ان معنى الهزيمة والنصر في منطق الإمام الخميني غير ذلك الذي اعتاد عليه السياسيون المحترفون. فهو خلافاً لكثير من المناضلين المشهورين والقادة والاعلام من سياسيي العالم، الذين يدخلون أولاً الميدان السياسي بأيّ وسيلة ودافع، ثم يحرصون على مظهرهم السياسي ودورهم وتتشكل شخصيتهم وسط ذلك الميدان المضطرب ـ دخل الميدان السياسي ومارس دوره القيادي للثورة الاسلامية في عام 1963 م بعد أن قطع شوطاً كبيراً في مسيرة التهذيب وكسب الفضائل المعنوية والمعارف الحقيقية بسطوحها العالية ومارس الجهاد الاكبر لسنوات طويلة. فالإمام كان يعتقد بأنَّ بناء النفس والجهاد الذاتي مقدم على الجهاد الخارجي، حتى إنّه كان يقول دوماً بأنَّ العلوم المختلفة ـ بما في ذلك علم التوحيد ـ إذا لم تقترن بتهذيب النفس فإنّها لن تكون سوى حجاب ولن تقود الى الحقيقة .
ان العبارات الحادة التي ضمنها الإمام بيانه الصادر في 2 نيسان 1963 م واشباهها التي وسمت الكثير من تراثه السياسي، لم تكن مناورة سياسية لاخراج مناوئيه من الساحة، بل انها كانت عرضاً لحقائق تنبع من اعماق وجود شخصية ترى أنَّ العالم محضر الله. فالامام لم يكن يكنُّ لاحد من خصومه من امثال محمد رضا أو صدام أو كارتر أو ريغان وغيرهم ممن وقفوا بوجهه خلال جهاده، حقداً أو عداءً شخصياً. كان سماحته حريصاً على إنقاذ المجتمع البشري من سلطة اتباع الشيطان وإعادة البشرية الى هويتها الفطرية الالهية ـ الرحمانية وكان ينظر الي الصراع من هذا المنظار. وقد حرص على الاعتقاد والعمل بهذه المبادئ قبل ان يدعوغيره اليها.
وللوقوف على سرّ موفقية الإمام الخميني ينبغي البحث في مجاهدته الطويلة لنفسه وسعيه لبلوغ المعرفة الشهودية الحقيقية. فلا يمكن درك دوافع الإمام الخميني واهدافه من نضاله السياسي دون التأمل في مراحل تكامل شخصيته الروحية والمعنوية والعلمية.
لقد رأى العالم الكثير من العناصر التي ميّزت جهاده وثورته، إلاّ أنَّ ما يميز نضال الإمام الخميني وما يميز ثورته عن سائر الثورات، ويجعلها متصلة بثورات الانبياء، هو أنَّ الشخصية التي فجرت الثورة الاسلامية في القرن العشرين، وحسب ما يروي رفقاء دربه، لم تترك طوال فترة ما قبل النهضة حتى انطلاقتها ومن ذلك الوقت حتى رحيله عن الدنيا، نافلة صلاة الليل والتهجد ليلة واحدة، ناهيك عن الفرائض والواجبات. إنّه ذلك الرجل الذي جلس يردُّ على اسئلة العشرات من الصحفيين والمصورين الذين اجتمعوا من انحاء العالم في آخر لقاء صحفي له في محل اقامته في (نوفل لوشاتو) وما ان مرت بضع دقائق وحان موعد الصلاة، حتى قام ليؤدي صلاته غير مكترث لذلك الجمع.
وللوقوف على سرِّ التأثير المميّز لبيانات الإمام وكلامه في الاستحواذ على مخاطبيه الى الحدِّ الذي يدفعهم الى التضحية بارواحهم، ينبغي البحث في أصالة فكره، والحزم في الرأي والصدق الخالص معهم.
ان من اهم المزايا التي وسمت نهضة الإمام الخميني:
الاعلان عن نهج واضح في نضاله واتخاذ مواقف واضحة وصريحة والثبات عليها، والحزم في التحرك نحوالاهداف وهي الامور التي اقربها العدووالصديق.
ان دراسة بيانات الإمام الخميني ومواقفه السياسية طوال فترة نضاله ضد الشاه وأميركا، ومقارنتها مع مواقف بعض الشخصيات العلمائية والسياسية والاحزاب والتجمعات والتيارات السياسية الاخرى، يظهر بوضوح مدى ثبات الإمام على المضي نحوتحقيق اهدافه وعزمه الراسخ على مواصلة النهضة.
ان الوثائق التاريخية تشير بوضوح كيف ان بعض الجماعات والافراد من اعلام السياسة والدين دخلوا ساحة الصراع في بدايته خلال اعوام 1961 1963 م وحتي انه كانت لديهم مواقف متشددة، ولكن وبمجرد تعرضهم لأول ردّ فعل من نظام الشاه، تراجعوا عن كل مواقفهم، واختار بعضهم الانزواء والسكوت الطويل الذي استمر حتى أيام بلوغ الثورة ذروتها وانتصارها في عام 1979. كذلك فإن عدداً منهم حاول الابتعاد لمسافة كبيرة عن المواقف التي اتخذها قائد النهضة واختار ـ بدلاً من الجهاد والوقوف بوجه السياسات الاستعمارية الأميركية في ايران، ومعارضة النظام الملكي المستبد باعتباره السبب الاساسي لتسليط الاجانب على البلاد - اختار الانشغال بالمسائل الجزئية المعاصرة ورفع الشعارات الفضفاضة من قبيل حرية الانتخابات أو تطبيق دستور السلطنة.
ولا يخفى على المطلعين على احداث التاريخ الايراني المعاصر بأن رفع امثال هذه الشعارات في تلك الايام لم تكن له نتيجة غير حرف مسار الانتفاضة الشعبية عن مواجهة العناصر الاصلية، ومن هنا نرى أن منظمة الامن (السافاك) كانت قد بادرت الى ترسيخ تلك التوجهات وتشجيعها.
وفي هذا الوسط اصرَّ الإمام الخميني وانصاره على مواصلة مسيرتهم والثبات على مواقفهم، وتقديم التضحيات من اجل الاهداف التي كان قد اعلن عنها في بداية جهاده، رغم الظروف الصعبة والاحداث العاصفة التي كان الواحد منها يكفي لان يكون سبباً مقبولاً لتغيير المواقف واختيار العزلة والسكوت والاستسلام للنظام. وان مثل هذا الصمود والاستقامة لم يكن ممكناً بغير الايمان بالاصول والحقائق التي تسموعلى مقتضيات الظروف السياسية والاجتماعية آنذاك.
بدأ عام 1342 ش (1963 م) بتحريم مراسم الاحتفال بعيد النوروز (الربيع) واصطبغ بدماء المظلومين التي اُريقت في الفيضية. فمن جانب كان الشاه يصر على تنفيذ الاصلاحات التي كانت تطالبُ بها أميركا، ومن جانب آخر اصرّ الإمام الخميني على توعية الجماهير واستنهاضهم للوقوف بوجه التدخلات الأميركية في الشؤون الداخلية والخيانات التي يرتكبها الملك.
وفي الثالث من نيسان 1963، أبرق آية الله العظمى الحكيم من النجف الى العديد من العلماء والمراجع في ايران يطالبهم بالهجرة الجماعية الى النجف الاشرف. كان هذا الاقتراح يهدف الي الحفاظ على حياة العلماء وكيان الحوزات العلمية، وقد عبّر النظام الملكي ـ وعبر العديد من الممارسات ـ عن غضبه واستنكاره لدعم علماء النجف وكربلاء وآية الله الحكيم لنهضة العلماء في ايران. ومن اجل خلق جومن الرعب والحؤول بين العلماء والاجابة على برقية آية الله الحكيم، بادر نظام الشاه الى ارسال افواجٍ من قوات الامن الداخلي الى مدينة قم، كما ارسل في الوقت ذاته وفداً رسمياً أخذ على عاتقه نقل رسالة التهديد الملكية الى مراجع التقليد.
امتنع الإمام الخميني عن استقبال هذا الوفد. وقد اشار سماحته الى هذه القضية في خطابه الذي القاه في 2/5/1963 مشيراً الى الملك بكلمة التافه إذ قال: إن هذا التافه، رأس هذه الحكومة الخبيثة، أرسل رئيس الشرطة الى منازل المراجع ـ طبعاً انا لم استقبلهم، وليتني فعلت، ليتني يومها سمحت لهم بدخول المنزل ثم هشمت اسنانهم! ـ ليبلغوهم: ان الشاه قد أمرنا اذا ما نطق احدكم بشيء بأن نقوم بارسال من يهدم بيوتكم ويقتلكم ويهتك اعراضكم .
ابرق الإمام الخميني برسالة جوابية الى سماحة آية الله العظمى الحكيم، غير عابئ بتلك التهديدات، أكد فيها ان الهجره الجماعية من قبل العلماء وإخلاء مواقعهم في الحوزة العلمية بقم يتعارض مع المصلحة الاسلامية. كتب الإمام في جانب من هذه البرقية يقول: سوف نؤدي تكليفنا الالهي
ان شاء الله وسوف نوفّق لإحدى الحسنيين: إما قطع ايدي الخونة عن الاسلام والقرآن الكريم، أو مجاورة رحمة الحق جل وعلا، وانّي [لا أرى الموت الاسعادة والحياة مع الظالمين الا برما ] .
وفي بيانه الذي اصدره بتاريخ 2 نيسان 1963 بمناسبة اربعينية شهداء فاجعة الفيضية، أكدَّ الإمام الخميني وقوف العلماء والشعب الايراني الى جانب قادة الدول الاسلامية والعربية ضد اسرائيل الغاصبة. وادان الاتفاقيات المبرمة بين الملك محمد رضا واسرائيل . وبذا اوضح، منذ إنطلاق نهضته، بأنَّ النهضة الاسلامية في ايران ليست بمعزلٍ عن مصالح الامة الاسلامية، وان نهضته انما تهدف الاصلاح في كل العالم الاسلامي غير محدودة بحدود ايران الجغرافية.
كتب الإمام الخميني في رسالة وجهها الى العلماء يقول: إنَّ الخطر الاسرائيلي على الاسلام وايران وشيك للغاية. فالمعاهدة مع اسرائيل في مقابل الدول الاسلامية ابرمت أو على وشك ذلك. وبالسكوت والاعتزال سنضيّع كل شيء. إنّ للاسلام علينا حقاً، ان لنبي الاسلام علينا حقاً. ينبغي لعلماء الاسلام واتباع الدين المقدس ان يؤدوا ما عليهم من دَينٍ لدينهم في هذا الزمان الذي تتعرض فيه كل الجهود المضنية التي بذلها ذلك العظيم صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وٰاله للزوال. لقد صممت على عدم التراجع حتى أُلزم هذا النظام الفاسد حدّه ... .

ارسل هذا الخبر الی الاصدقاء