كان ذلك في الليلة التاسعة عشرة من شهر رمضان المبارك عندما قام أشقى الأشقياء ابن ملجم بضرب أتقى الأتقياء وأعدل الحكماء والناصر الدائم والوفي للرسول الأكرم (ص) الإمام علي(ع) بسيفه المسموم على رأسه الشريف فسال منه الدم ولطخ وجهه الكريم ولحيته البيضاء.
لقد سمع الإمام علي (ع) مرات ومرات عن لسان نبي الإسلام(ص) من خلال كلامه الإعجازي أحاديث حول طريقة وكيفية شهادته:
ففي غزوة الخندق عندما برز الإمام علي(ع) أمام مقاتل الشرك والكفر "عمر بن عبد ود العامري" ضربه اللعين على رأسه الشريف فجرى الدم على وجهه الكريم ولطخ لحيته، فقال له النبي (ص) وهو يداوي رأسه الشريف بيديه وينظف الدم الجاري على وجهه:
" أينَ أنا يوم يضربك أشقَي الاخَرين عَلى رَأسِكَ ويخضِب لِحيتكَ مِن دَم رأسك".
عند حلول شهر رمضان المبارك، كان الإمام قد بلغ الربيع الثالث والستين من عمره. وكان كعادته في السنوات السابقة يحل ضيفاً على الإفطار في منزل أولاده، ولم يكن يتناول سوى ثلاث لقيمات من الطعام.
وفي الليلة التاسعة عشر كان الإمام ضيفاً في منزل ابنته أم كلثوم. ولم يتناول في تلك الليلة أيضاً سوى ثلاث لقيمات من الطعام.
تقول أم كلثوم ابنة الإمام علي(ع): "عندما حلّ علينا والدي ضيفاً في الليلة التاسعة عشر من شهر رمضان الكريم، قمت بوضع طبق فيه رغيفين من خبز الشعير ووعاء فيه لبن وملح مطحون له، وبعد أن انتهى من أداء صلاة المغرب، حضر إلى مائدة الإفطار وعندما وقعت عيناه على الطعام وتأمله جيداً، هزّ رأسه بحزن وقال لي خذي وعاء اللبن ولم يتناول سوى القليل من الخبز والملح. وبعد أن شكر الله تبارك وتعالى قام لإداء الصلاة والدعاء. كان دائماً في حال الركوع والسجود والدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى. لقد كان مستيقظاً طوال الليل وهو يقوم بإداء العبادة لله عز وجل. وكان في تلك الليلة يخرج أحياناً من غرفته ويقول وهو ينظر إلى السماء النيلية اللون:
"هي والله الليلة التي وعدني بها حبيبي رسول الله. والله ما كَذبتُ ولا كُذّبت وانها الليلة التي وعدت بها".
بعد أن سمع أهل الدار هذا الكلام شرعوا بالبكاء والعويل وعلت أصوات صيحاتهم المكان. فدعاهم الإمام للسكوت، فلما كفّوا، أوصاهم وأمرهم بفعل الخيرات والحسنات، ونهاهم عن السيئات...
انتهت الليلة التاسعة عشر، وها هو الإمام يسير متجهاً نجو المسجد وبعد دخوله مسجد الكوفة، صلى عدة ركعات في الظلام وانشغل بإداء تعقيبات الصلاة، وبعد ذلك صعد إلى سطح المسجد وأقام الأذان وأيقظ من كان نائماً في المسجد. ثم اتجه بهدوء إلى المحراب وشرع بإقامة الصلاة بقلب خاشع.
في تلك الليلة كان اللعين "ابن ملجم" قد قررت بخطة خبيثة أن يضرب الإمام علي(ع) أثناء قيامه من الركوع أو السجود. لذلك وبعد بدء الصلاة وقف خلسة وتسلل إلى جانب العمود الذي يقف بجانبه الإمام علي(ع) لأداء الصلاة. ليقوم بارتكاب أفظع جريمة عرفها التاريخ حين تسنح له الفرصة. وعندما رفع الإمام (ع) رأسه بعد السجود، قام ذلك اللعين بضرب الرأس المبارك لنجم وإمام الحرية والعدالة بسيفه المسموم بألف ينار. لقد وقعت ضربة ذلك اللعين على نفس المكان الذي ضُرِب به الإمام بسيف ابن ملجم في غزوة الخندق. ففتحت رأسه الشريفة وجرى الدم عليها وتلطخ وجهه الكريم. فهتف أعز أصحاب رسول الله(ص) وهو يسقط في المحراب قائلاً:
«بسم الله و بِاللهّ وعَلى مِلّةِ رَسولِ اللهِ: فزت وَرَبِّ الكعبة»
بعد أن قام اللعين ابن ملجم بضرب الرأس الشريفة للإمام علي(ع) حاول أن يلوذ بالفرار إلا أن الناس امسكوا به وأحضروه إلى المسجد.
وعندما فتح الإمام عينيه ونظر إلى ابن ملجم ورآه مكتوف اليدين والسيف معلّق في عنقه قال بصوت ضعيف ورأفة وعطف: "يا هذا لقد جئت عظيماً وارتكبت أمرا عظيماً وخطباً جسيما أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء ؟ ألم أكن شفيقا عليك وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في إعطائك ؟ ألم يكن يقال لي فيك كذا وكذا فخليت لك السبيل ومنحتك عطائي وقد كنت أعلم أنك قاتلي لا محالة ؟ ولكن رجوت بذلك الاستظهار من الله تعالى عليك يا لكع وعل أن ترجع عن غيك ، فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء".
ثم التفت الإمام إلى ولده وأوصاه في حق هذا اللعين قائلاً:
" إرفق يا ولدي بأسيرك وارحمه ، وأحسن إليه وأشفق عليه ، فإن أنا مت فأقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة ولا تحرقه بالنار ولا تمثل بالرجل".
بقي الإمام علي (ع) طريح الفراش في منزله منذ فجر ليلة ضربه بالسيف أي الليلة التاسعة عشر وحتى أواخر ليلة الواحد والعشرين من رمضان. وكان يزوره خلال تلك المدة أهل بيته الكرام وبعض أصحابه لينهلوا في آخر ساعات من حياته من كلامه الثمين. ومن جملة نصائحه الحكيمة قوله: "أنا بالأمس صاحبكم واليوم عبرة لكم وغداً مفارقكم".
أحضروا للإمام(ع) مقدار من اللبن فشرب القليل منه وقال أعطوا السجين من هذا اللبن أيضاًَ ولا تؤذوه ولا تعذبوه فلو بقيت حياً فسأحكم فيه بنفسي وإن مت فاضربوه ضربة واحدة لأنه لم يضربني سوى ضربة واحدة.
بقي الأمام (ع) طوال تلك المدة منهكاً غير قادر على الحركة ذلك نتيجة انتشار السم الذي سرى إلى دمه جراء ضربة السيف من ذاك اللعين، ولهذا كان يؤدي صلاته وهو جالس وكان دائماً مشغولاً في ذكر الله عز وجل، وفي ليلة الواحد والعشرين وعند اقتراب موعد رحيله عن هذه الدنيا أمر بحضور جميع أعضاء عائلته ليراهم آخر مرة ويلقي على مسامعهم وصية أخرى من وصاياه:
اجتمع أولاد الإمام علي (ع) حوله ليستمعوا إلى وصاياه وأعينهم محمرة من كثرة البكاء، تلك الوصية لم تكن لأولاد الإمام فحسب بل كانت موجهة لجميع البشر وحتى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
"بداية قولي أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنا محمداً ابن عمي رسول الله ... يا بَنيّ: عليكم بالورع والتقوى والصبر أمام المحن والشدائد. لا تتعلقوا بالدنيا ولا تأسفوا على ما فاتكم ... صلوا أرحامكم وأحسنوا لهم، وأعينوا الفقراء والمساكين، وزوروا المرضى ...".
كان أولاد الإمام علي(ع) جالسين يستمعون إلى كلامه الطيب والحزن يعتصر قلوبهم والغصة تملأ حلوقهم، إلى أن أنهى سماحته (ع) هذا الجزء من وصيته بقوله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وبعدها غاب عن الوعي، وبعد لحظات فتح عيناه الالهيتين بشكل بسيط وقال: "بني حسن، ألا واني منصرف عنكم وراحل في ليلتي هذه، فإذا أنا مت فغسلني وكفني وحنطني، وصلي علي وقم بدفني في الظلام بعيداً عن مدينة الكوفة كي يخفى على العامة موضع قبري". لقد كان عامة بني هاشم وخاصة العلويون ينحبون ويذرفون الدموع حزناً على فراق الإمام (ع)، كان الإمام الحسن(ع) أقرب الجالسين في محضر أمير المؤمنين(ع) فانتبه الإمام إلى شدة حزنه وألمه فقال: "بني أوصيك واخوانك بالصبر والتسامح". ثم أغمي عليه (ع)، وبعد لحظات فتح عينينه وقال مخاطباً الإمام الحسين(ع): "بني إن حياتك أيضاً ستكون مليئة بالأحداث فاصبر إن الله يحب الصابرين".
في هذه الأثناء أصبحت حالة الإمام أشد سوءاً فأغمض بعدها بلحظات عينيه المباركتين وقال:
"أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله".
وبعد تأدية الشهادتين التصقت شفتاه المباركتان وحلقت روحه باتجاه بارئها والتحق بالرفيق الأعلى وبهذا انتهى عصر رجل لم يسعى طوال حياته سوى في سبيل إحقاق الحق والحقيقة.
شرع الإمام الحسن(ع) بمساعدة أخيه الإمام الحسين(ع) وعدد آخر من الرجل بتجهيز جسد والدهما المبارك وبعد تأدية الطقوس الدينية قاموا بدفن جسده الطاهر خلف الكوفة في المكان الذي يُشتهر اليوم باسم النجف. وكما أوصى الإمام(ع) قاموا بتسوية قبره بالأرض كي يخفى على الجميع لكي لا يقوم أعداؤه من بني أمية والخوارج بإخراج جسده الطاهر والإهانة إليه والتعدي عليه!. وبقي الضريح النوراني للإمام علي(ع) مستوراً عن الأنظار حتى عهد الإمام الصادق(ع).