انتصار الثورة الاسلامية والتحولات العميقة

انتصار الثورة الاسلامية والتحولات العميقة

يعد انتصار الثورة الإيرانية في شباط عام 1979، من التحولات العميقة.. وان اندلاع مثل هذه الثورة في العقود الأخيرة من القرن العشرين اصاب الكثير من المنظرين للثورات بالحيرة والدهشة.

حجة الإسلام محمد جواد نوروزي

تمهيد
يعد انتصار الثورة الإيرانية في شباط عام 1979، من التحولات العميقة.. وان اندلاع مثل هذه الثورة في العقود الأخيرة من القرن العشرين اصاب الكثير من المنظرين للثورات بالحيرة والدهشة.. وعلى الرغم من مرور أكثر من ثلاثة عوقة على انتصارها، لازال الكثير من ابعادها خافياً على شعوب العالم بل وحتى على المسلمين.
إن البحوث التي تناولت هذا الحدث التاريخي الهام بالدراسة والتحقيق، يمكن تصنيفها في نظرة عامة إلى فئتين:

ألف - الابحاث الوصفية – التاريخية
وتشكل هذه الأبحاث الجانب الأكبر من الكتابات التي تناولت الثورة الإيرانية. وتعد مذكرات المسؤولين السابقين والمبعوثين الأجانب من جملة هذه الأعمال. وبشكل عام تفتقر هذه الأعمال للقيمة العلمية، إلا أنها تتضمن بعض الحقائق والمؤشرات التي تعتبر مفيدة في دراسة الثورة وتحليل ابعادها.
باء - الأبحاث العلمية – التحليلية
تتناول هذه الفئة من البحوث والدراسات ظاهرة الثورة من زوايا مختلفة. حيث اهتم كل كاتب بتقييم هذه الظاهرة انطلاقاً من خلفيته الفكرية وفرضياته الذهنية المسبقة.
وفي نظرة عامة، يمكن تصنيف الكتابات التي ظهرت في هذا المجال إلى عدة أقسام بناءً على طبيعة رؤيتها المحورية للأحداث. فالبعض من الكتابات المتعلقة بدوافع الثورة ركزت على عامل الاقتصاد والتنمية، فيما تمحور البعض الآخر حول العوامل النفسية، واهتم البعض بالتدخل الأجنبي، وأولى آخرون اهتمامهم بدور الثقافة والايديولوجية في تنامي الثورة.
وبالالتفات إلى ذلك، فان ما يحظى بالاهمية في هذا الصدد ويحاول هذا البحث توضيحه والإجابة عليه، هو اعطاء إجابة مقنعة عن هذا التساؤل: ما هو العامل الرئيسي الذي كان وراء انتصار الثورة في شباط عام 1979؟ بعبارة أخرى؛ هل كان للإسلام دور مصيري من بين مجموعة العوامل التي تذكر بصدد توضيح ابعاد الثورة الإسلامية؟
للإجابة على هذا التساؤل، ومع الأخذ بنظر الاعتبار الكتابات المتوافرة في هذا المجال، يمكن الإشارة إلى عدة فرضيات مطروحة. غير أن الفرضية التي يحاول كاتب هذه السطور التوقف عندها والتعرف على ابعادها، هي: (إن الإسلام اضطلع بدور أساسي ومصيري في تشكيل وبلورة الثورة). ونعني (بالإسلام) في هذا البحث، (التشيع) الذي يشكل المذهب الرسمي للمجتمع الإيراني، ويمثل الرؤية الكونية والنظام الفقهي والحقوقي والسياسي والأخلاقي الخاص به.
كما نقصد بـ (الثورة) التعريف الذي يقدمه الاستاذ الشهيد مرتضى مطهري لهذه المفردة اللغوية وهذا المصطلح. ففي تعريفه للثورة يذكر الشهيد مطهري: (أنها طغيان وتمرد أبناء ناحية أو منطقة ما، ضد النظام الحاكم من أجل إيجاد نظم جديدة)(1).
وفي ضوء ذلك، وفي محاولة للتعرف على الفرضية آنفة الذكر، سيتناول البحث المحاور التالية:
ألف: طبيعة الدين والثورة
يستند البحث في موضوعه إلى جملة من الفرضيات منها: القبول بأن الاسلام لا ينفك عن السياسة وأنهما كيان واحد. الأمر الآخر، البحث عن دائرة الدين. البحث في طبيعة الدين وماهيته بالنسبة للمتغيرات الاجتماعية والثورة. بتعبير آخر: هل تشتمل دائرة الدين على ظواهر من قبيل الثورة؟ وهل الدين يحول دون الثورة أم يشكل دافعاً لها؟
ثمة رؤى عديدة بهذا الصدد. فالبعض من المذاهب يستهدف تلبية الاحتياجات الروحية والفردية. وفي ضوء هذا التصور، الدين عبارة عن سلسلة من التعاليم الأخلاقية والمواعظ والإرشادية. وبناء على ذلك فالدين عبارة عن منظومة من التصورات والأفكار المعزولة عن الواقع الاجتماعي والسياسي للمجتمع.
وأن مثل هذا التصور ينطبق في الغالب على الدين المسيحي المحرّف والتحولات التي اعقبت عصر النهضة التي أدت إلى فصل الدين عن السياسة. غير أن الإسلام يعارض هذه الرؤية بشدة.
التصور الآخر للدين يتمثل في الرؤية المحافظة. وان تحليل الشيوعية للدين يمكن تقييمه في هذا الإطار. وفي ضوء هذه الرؤية يصبح الدين في خدمة بعض فئات المجتمع فحسب..
ثمة تصور آخر للدين يعتبر تصوراً إيجابياً وبناءً.(2) وفي ضوء هذا التصور يمتلك الدين الكثير من العناصر المؤثرة في المضمار الاجتماعي، ولديه العديد من الأساليب الفاعلة في تعزيز التضامن والتآزر الاجتماعي وتنظيم حياة الإنسان في هذا المضمار.
ومن الواضح أن الثورة الفرنسية كانت تتطلع إلى فصل الدين عن السياسة. ولهذا لم يكن للدين المسيحي أي دور في بلورة هذه الثورة، وان قادتها موقف لم يقتصر على عدم تدخل الدين في الشؤون السياسية فقط وانما جعلوا من الدين، واستناداً للثقافة الناتجة عن التحولات التي اعقبت عصر النهضة، محدوداً في دائرة القضايا الشخصية.(3)
كذلك نحاول في هذا البحث توضيح حقيقة أن الثورة الإسلامية تقف في الجانب الآخر من الثورة الفرنسية. ذلك أن جذور الثورة الإيرانية تمتد إلى الإسلام، وقد اندلعت بدافع أحياء الدين وسيادة القيم الدينية في الميدان الاجتماعي.

باء: الخطوط العامة للإسلام والثورة الإسلامية
الإسلام يرتكز إلى نظام قيمي. وفي هذا النظام القيمي تم التطرق إلى سمات وخصائص المجتمع السياسي الهادف. إذ أن الزعماء الدينيين، وعلى أساس النظام القيمي، يطرحون أساليب وسبل عملية لانتقال المجتمع القائم إلى المجتمع الهادف. وينص الإسلام على معايير وملاكات خاصة في استخدام الأساليب والوسائل، مقارنة مع المذاهب الأخرى، تختلف عما هو متداول اليوم في العالم.. ويعد التحرك في إطار الإسلام وسيادة الأخلاق، ومعارضة استخدام الوسائل غير الأخلاقية في تحقيق الأهداف، من الخطوط العامة التي تتسم بها هذه الأساليب والوسائل.
والقرآن الكريم يوضح الكثير من ابعاد النظام القيمي الهادف في الإسلام. كما أن تاريخ النضال الشيعي شكّل مصدر إلهام للشعب الإيراني في بلورة الثورة الإسلامية. إذ أن اعطاء فهم صحيح ودقيق وبناء لتاريخ الإسلام والتغيير والتحول، أدّى إلى أحداث تحول في أفكار وتصورات أبناء الشعب. وفي هذا الصدد يرى العديد من الباحثين بأن الدافع الرئيسي لإندلاع الثورة الإيرانية يكمن في الروح السائدة على الفكر الإسلامي والرؤية الكونية الإسلامية. فقبل اندلاع الثورة عمل البعض على أحداث ثورة فردية داخل النفوس وفي أوساط المجتمع.(4) وفي هذا الصدد يذكر القرآن الكريم: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما في أنفسهم)(5).
فمن أجل أحداث ثورة في الفكر لابد من أحداث تحول في الرؤية الكونية والتوجهات الروحية للمجتمع. وان المسؤوليات الهامة التي اضطلع بها الأنبياء والقادة الإلهيون، تمثلت في أحداث تحول في الفكر والرؤى.
ويحتل النظام العقائدي في الإسلام دوراً هاماً في تحديد موقف الإنسان في الميدان الاجتماعي. وكلما اتسمت معتقدات المجتمع وقناعاته بالمزيد من الاستحكام المنطقي استطاعت أن تمارس دوراً أكثر فاعلية في التصدي للمشكلات والمصائب.
إن الروح الحقيقية للتوحيد تتجلى في رفض الفراعنة والطواغيت، وتمنح القدرة على المقاومة والصمود في المواجهة والنضال ضد الشرك والظلم.. وفي هذا الصدد يرى أحد الكتّاب الأجانب بأن الفكر الشيعي يكتنز في داخله عناصر نضالية وطاقات ثورية بشكل ملفت وبارز، ويبرر المقاومة ضد اعتى الطغاة والظالمين(6).
إن الإيمان بالحياة الآخروية يعتبر ملهماً للنضال في إطار طلب الشهادة ونيل الفوز العظيم، أو النصر وإقامة الحدود الإلهية في العالم. كما أن النبوة والإمامة تمثل نهج الأقوال والأفعال للزعماء الدينيين بمثابة أسوة للناس وتوجيهاً لهم. وان حياة الأئمة الاطهار الحافلة بالنضال والجهاد، والتي يفخر بها تاريخ التشيع، تشكل درساً كبيراً لاتباعهم على مرّ التاريخ. ومن هنا فان تحولات الثورة على مرّ التاريخ بعد عصر الغيبة، تمتد جذورها في واقعة عاشوراء والمواقف السياسية – النضالية للأئمة الاطهار.
إن نظام الحقوق الإسلامي، والسيادة الإلهية في المجتمع وتشكيل الحكومة، وعنصر الاجتهاد ومؤسسة المرجعية، وأبواب نظير الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحتل دوراً هاماً في اللجوء إلى الأساليب الثورية للتصدي للحكام غير الدينيين. وفي النظام التربوي الإسلامي ثمة عناصر مهمة أيضاً للمواجهة مع الطواغيت. وفي هذا الصدد يؤمن الاستاذ الشهيد مرتضى مطهري بأن رفض روحية الخنوع والاستسلام، والتحلي في المقابل بروحية الغضب والرفض، يعد من الأرضيات المهمة للتمرد والمقاومة ضد الانظمة المعادية للدين(7).وان شعارات الإسلام الهادفة من قبيل الحرية والمساواة والأخوة وطلب العدالة، تعد من المعايير المهمة لنظام الإسلام التربوي التي تساعد أفراد المجتمع، عبر أهداف محددة، في تحطيم قيود الأسر والعبودية.
وبشكل عام تقود التأثيرات الهامة لايديولوجية الدين إلى تحديات الأوضاع القائمة في المجتمع من جهة، ومن جهة أخرى ترسم معالم المستقبل المنشود وتحديد السبل للتحرك والانتقال من الوضع القائم إلى الوضع المنشود.

جيم: محاربة النظام الشاهنشاهي للإسلام ورد فعل القوى الدينية
خلال مسيرة تنامي الثورة في إيران، تعتبر محاربة النظام الشاهنشاهي للإسلام بمثابة أحد المؤشرات البارزة في هذه المسيرة.. ذلك أن الحكام السياسيين، واستناداً للفكر الشيعي، يفتقدون لمشروعية السلطة. ومع نشوء النهضات الاصلاحية وحركات الأحياء الديني خلال المائة سنة الأخيرة، بات الإسلام يشكل أحد العقبات الرئيسية التي تعترض طريق الاستعمار والاستبداد.. ففي عهد الحكم البهلوي، الذي كان قد وصل إلى سدة الحكم بمساعدة الاستعمار البريطاني، شكلت محاربة الإسلام ومقارعة التراث أحد التوجهات السياسية الثابتة لهذا النظام. وبإمكاننا أن نوجز المحاور الرئيسية التي اعتمدها النظام البائد في محاربة الإسلام على النحو الآتي:
1 – التوجه القومي
نظراً إلى أن الدين يعتبر عامل للتضامن في المجتمع، وفي الوقت نفسه لم يكن ينسجم مع توجهات النظام البائد، لذا حاول التأكيد على التوجه القومي والانتماء العرقي كبديل آخر يمتلك تأثيراً مماثلاً للدين الإسلامي في تحقيق التضامن الوطني والقومي. ومن هنا كانت الفلسفة السياسية للنظام مبنية على أساس التوجه القومي. وكان مثل هذا التوجه يتطلع إلى جانبين، فمن جهة كان يستهدف محاربة الإسلام، ومن جهة أخرى كرس جهوده للترويج للتاريخ القديم حيث تم التركيز على المحاور المهمة من التاريخ الإيراني القديم المناهضة للإسلام، وكان قائماً على السياسات التالية:
الف – الاساطير القومية
كان النظام ينظر إلى الخلفية التاريخية بمثابة أحد سبل اضفاء المشروعية، وكانوا يسلطون الضوء على الشاه بصفته مظهراً للوحدة القومية والمحافظ على وحدة الأراضي الإيرانية(8).
ب – إقامة الاحتفالات والمهرجانات الواهية
ففي العهد البهلوي الأول، تم التركيز على الاحتفاء بألفية الفردوسي بدافع التأكيد على اللغة الفارسية والقومية الإيرانية والديانة الزرادشتية والشاهنشاهية في مقابل الدين الإسلامي.
وفي العهد البهلوي الثاني، اقيمت على اطلال (تخت جمشيد) الاحتفالات بمناسبة مرور 2500 عام على الإمبراطورية الشاهنشاهية والدعاية الضخمة لها سواء على صعيد الداخل والخارج، والبذخ الذي فاق حد التصور. وقد ووجه ذلك برد فعل عنيف من قبل سماحة الإمام الخميني والمجامع الدينية داخل إيران وخارجها(9).
ج – إعادة كتابة التاريخ القديم
بادر النظام السابق إلى إعادة تدوين التاريخ القديم بدافع الإساءة إلى الحضارة الإسلامية وإقصاء ثقافتها. وقد سعى إلى كتابة تاريخ 2500 عام بنحو يظهر فيه العهد الإسلامي وكأنه نموذج للتدني والإنحطاط وعامل تأخر المجتمع وتخلفه.
د – التأكيد على اللغة الفارسية القديمة والتخلص من المفردات العربية
إن أحد ابعاد الاهتمام بإيران القديمة تمحور في أحياء اللغة الفارسية ومحاولة التخلص من المفردات العربية. وان مثل هذا التحرك كان يهدف إلى قطع الارتباط الثقافي للمجتمع مع أصوله الدينية. وقد تم تطبيق هذه السياسة في العديد من الدول الإسلامية ولعلّ ابرزها تركيا. غير أن هذه السياسة واجهت مقاومة شديدة من قبل المفكرين الدينيين وأبناء الشعب مما اعجزها عن تحقيق أهدافها.
2 – هدم الاعتقاد الديني واضعاف إيمان الشعب
إن إثارة الشبهات بدافع اضعاف الثقافة الدينية، شكل أحد محاور تحرك النظام السابق. إذ حاول النظام ومن خلال الإستعانة بالكتّاب المأجورين، الاستهزاء والإستهانة بالأحكام الدينية عبر تناولها في كتابات من قبيل روايات وقصص. وسعى إلى ترويج التفاهة والشبهات والتوجه اللاديني، من خلال إعادة نشر الكتب التي عمل على تأليفها المستشرقون والكتّاب الغربيون.
كما عمل النظام البائد على تحجيم نشاط المفكرين الدينيين ومراجع الدين. ويعد نشر مقال (رشيدي مطلق) في مهاجمة قائد الثورة عام 1977 من جملة هذه التحركات. وقد أثار نشر هذه المقالة ردود فعل جماهيرية غاضبة وانطلاقة انتفاضة (19 دي) والتعجيل بمسيرة الثورة.
كما أن احلال القوانين الوضعية محل القوانين الإسلامية في المحاكم القضائية، شكل نموذجاً آخر من التحركات التي اقدم عليها النظام الشاهنشاهي على طريق محاربة الإسلام، والتي كانت قد بدأت منذ عام 1305 واستمرت واستفحلت حتى انتصار الثورة(10). وان محاولات إشاعة الفحشاء والفسق والفجور التي يسعى إليها النظام بشكل جاد، إنما تأتي في هذا السياق واستهدفت إشاعة روح اللاإبالية والتقاعس والإهمال في أوساط الشباب من أبناء المجتمع.(11) كما أن دعم وتقوية المذاهب المنحرفة وتحريض الأقليات الدينية، شكل جانب آخر من مظاهر محاربة الإسلام التي لجأ إليها النظام السابق. وان توسيع دائرة العلاقات مع إسرائيل وتقديم الدعم والحماية للبهائيين، كان من سياسات النظام البارزة التي تصدى لها الإمام الخميني بحزم.
3 – التبعية والتغرب
في الوقت الذي تؤكد فيه المصادر الدينية على رفض تسلط الكفار على المسلمين، ويحذر القرآن الكريم المسلمين من الروابط والعلاقات التي تقود إلى هيمنة الكفار وسيطرتهم على المجتمعات الإسلامية(12)، نعلم جميعاً بأن النظام البهلوي جاء إلى السلطة بدعم ومساندة الدول الاستعمارية. ولهذا كان تابعاً لها وعمل على إشاعة الثقافة الغربية في إيران. وفي هذا الصدد يعد تشريع قانون منح الحصانة القضائية للأجانب لا سيما الأميركيين عام 1343، والذي واجه معارضة شديدة من قبل الإمام الخميني وأبناء الشعب، من النماذج البارزة على ذلك.

دال – القيادة
تعد القيادة من المؤشرات الإسلامية الأخرى في الثورة الإيرانية، وكانت قد تبلورت قيادة الثورة في شخصية الإمام الخميني. واستطاعت القيادة أن تمارس بنجاح دور المنسق الرئيسي للقوى المساهمة في التحرك الثوري. فعلى الصعيد النظري ثمة آراء مختلفة حول دور القيادة في الثورات.. وان بعض النظريات تحاول أن تنظر إلى هذا الدور من زاوية نفسية متأثرة بالتحليل النفسي لفرويد.
غير أن ريمون آرون يقسم أفراد المجتمع، من الناحية الفكرية، إلى ثلاث فئات بشكل عام:
الفئة الأولى: النخبة المفكرة والمنظرون الثوريون.
الفئة الثانية: العاملون على نشر هذا الفكر، والذين يكرسون جهودهم في نشر وترويج وإشاعة أفكار الآخرين.
الفئة الثالثة: المستهلكون والمستفيدون من هذه الأفكار.
والقائد إنما هو المنظر للثورة. وان السمات الشخصية التي يتمتع بها وقوة كلامه ونفوذه، تشكل عوامل مهمة في الاستحواذ على اهتمام الجماهير والانقياد إليه.(13)
إن وجود القيادة ضرورة لا يمكن انكارها وقد تم التأكيد عليها في أسس الفكر السياسي الإسلامي.. فالحكومة والقائد كلاهما من الضروريات لا يمكن الاستغناء عنهما. وفي هذا الصدد تعتبر محاولة إزالة العقبات التي تعيق استخدام السبل المشروعة (وليست المفروضة والقسرية)، والمضي قدماً بمسيرة النضال في إطار المفاهيم الإسلامية، مثار اهتمام أفراد المجتمع(14).
وأن من خصائص قيادة الثورة الإيرانية، أن نضالها وثورتها كانت ترتكز إلى قاعدة الدين والمعنوية، وان أداء الواجب كان بمثابة مبدأ أساسي مفروغ منه. وكانت القيادة تستمد قوتها من التوكل على الله تعالى والتأييد الشعبي العميق الذي كانت تحظى به.
كما أن وضع نهاية لإسطورة (الفصل بين الدين والسياسة) شكل سمة أخرى من سمات القيادة التي كرست النضال ضد المحور الرئيسي ألا وهو الشاه. وكان خطاب القيادة موجهاً إلى الجماهير الثورية المسلمة وليس إلى الاحزاب والفئات الخاصة.
فالإمام الخميني ومنذ الانطلاقة الأولى للثورة عام 1963، كان قد اعتبر أميركا وإسرائيل اساس معاناة المجتمع وتعاسته، وبقي يصرّ على ذلك حتى انتصار الثورة. وان الفارق بين الثورة الإسلامية مقارنة مع النهضات الأخرى التي شهدها المجتمع الإيراني قبل ذلك، بما فيها الحركة الدستورية ونهضة تأميم النفط، يكمن في أن الثورة كانت محظ اهتمام وقيادة المرجعية الدينية ومؤسسة الفقاهة. إذ مارس قائد الثورة وتلامذته الفكريون، ومن خلال رسم صورة حقيقية للدين، دوراً هاماً في احياء الفكر الديني والتمهيد للثورة.
كما استطاعت القيادة أن تضطلع بدور هام في بلورة دوافع الثورة، وفي تحديد معالم الرؤية الكونية وإرساء أسس النظام القيمي في المجتمع. فالكثير من المفاهيم الدينية التي اساء استغلالها النظام الشاهنشاهي وحاول تسخيرها لتحقيق أهدافه المشؤومة، قد تم إعادة صياغتها من جديد ولفت الانظار إلى حقيقة أهدافها. ومن جهة أخرى عملت القيادة على إزالة العقبات المحتملة التي من الممكن أن تعيق تقدم مسيرة الحركة الثورية. وفي هذا الصدد تم تحريم التذرع (بالتقية) للتباطئ في مسيرة حركة الثورة في السنوات الأولى لانطلاقة النهضة.
ومن الممارسات الأخرى الخاصة التي اضطلعت بها القيادة، إشاعة روح الثقة بالنفس في اوساط الجماهير ودفعها للتصدي لروح الانهزامية والاستسلام. ومن خلال العلاقات الواسعة التي كانت تتمتع بها قيادة الثورة الإيرانية مع علماء الدين، انطلقت شبكة واسعة من الطاقات الواعية في نشر وإشاعة أفكار القيادة وتوجهاتها في مختلف انحاء البلاد، ومارست نشاطها في إيران بمثابة حزب سياسي، في حين أنها لم تكن تملك السمات الظاهرية للحزب.
كما أن التجربة التاريخية الإيرانية خلال المائة سنة الماضية، توضح أيضاً دور المفكرين الدينيين وعلماء الدين في التحولات الاجتماعية.
وقد اضطلعت بيانات القيادة في إطار المفاهيم الإسلامية بدور هام في تعبئة الجماهير طوال فترة تنامي الثورة. وان تحليل مضمون هذه البيانات والإصداء التي تركتها في أوساط الجماهير، يوضح ماهية هذه الثورة وهويتها الفكرية. وان من ابرز الأهداف التي لاتنفك القيادة من التأكيد عليه في الكثير من البيانات، تمثل في اعلاء كلمة الحق واستحكام الأصول الدينية التي كان النظام السابق يسعى لتحجيمها والقضاء عليها(15).
وإذا ما ألقينا نظرة على مواقف القيادة خلال مسيرة تنامي النهضة، سنلحظ بأن أول اعتراض صدر عن الإمام الخميني كان قد تمحور حول لائحة (مجالس الاقاليم والولايات)التي نصت على إلغاء شرط الإسلام والقسم بالقرآن الكريم.
كما أن مذبحة المدرسة الفيضية عام 1963، وانتفاضة الخامس عشر من خرداد (4 حزيران 1963) التي ادّت إلى استشهاد المئات، كانت حصيلة رد فعل القيادة إزاء سياسة النظام المعادية للإسلام. وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى استشهاد نجل الإمام الراحل عام 1977، بمثابة منعطف في مسيرة الأحداث التي قادت في النهاية إلى سقوط النظام الشاهنشاهي عام 1979.

هاء – دور المساجد
يعد الدور الذي لعبته المساجد في مسيرة الثورة أحد المؤشرات الإسلامية الأخرى في هوية الثورة. إذ كانت المساجد قد اصبحت أحد المراكز المهمة للتجمع وتبادل بيانات الثورة وترسيخ تحركها وتصعيد أحداثها. فمن الناحية النظرية يعد التنظيم والتخطيط من العناصر التي يؤكد عليها المنظرون للثورات. إذ يرى هؤلاء بأنه في غياب الإطار المؤسساتي المنظم للنضال، تتخبط القوى الثورية وتعيش حالة من الإرباك والتيه. وفي هذا الصدد يعتقد جارلز تيلي، أحد المنظرين للثورات، بأن الثورات لا تنشأ على أساس الانفصام الاجتماعي، ولذا يشدد كثيراً على دور التنظيم والتخطيط في اندلاع الثورة.(16)
وفي هذا الصدد ينبغي للمؤسسة أن تتحلى بالقدرة اللازمة التي تؤهلها لإيجاد نوع من الارتباط المنظم بين الثوريين بعضهم بالبعض الآخر، وبين الثوريين وجماهير الشعب، وبينهما وبين القيادة.
ثمة مسؤولية أخرى تقع على عاتق المؤسسة تتمثل في الجانب الإعلامي وابلاغ البيانات التي تصلها أول بأول، حيث يحظى مثل هذا بدور مهم في تعبئة الجماهير وتوجيهها. فإذا ما كان القائد على اطلاع كافٍ بحجم ونوعية القوى الثورية وآفاق تحركاتها ونقاط تواجدها، و كذلك محيطاً بردود أفعال النظام المحتملة، سوف يتسنى له التحرك بنحو أدق وبالتالي تقليل نسبة الأخطاء المحتملة إلى أقصى حد ممكن.
وفي تكوين الثورة الإسلامية وبلورتها اضطلعت مراكز ومؤسسات نظير المساجد، بدور المنظم والمتحضن للقوى المناهضة للنظام. ومن الواضح أن المساجد تشكل أحد مظاهر تجليات الثقافة الإسلامية. فقد كان ينظر إليها في صدر الإسلام بمثابة مراكز للنشاط الاجتماعي فضلاً عن كونها مراكز للعبادة. اضف إلى ذلك أن المساجد تعد من أولى المراكز التي كانت تستهدفها حملات الأعتداء على العالم الإسلامي، حيث كانت تتعرض للهدم والإنتهاك.(17)
فالمسجد كان منذ اليوم الأول وعلى مرّ التاريخ الإسلامي مكاناً للعبادة والتعليم، ومركزاً للقضاء والحكم في النـزاعات، ومحلاً للتواصل الاجتماعي وتبادل الأخبار، وقاعدة للجهاد والتحركات الثورية.
ولكن ومع رواج الخرافات وتشويه حقيقة المفاهيم الدينية، وافول نجم الحضارة الإسلامية، انحسر تأثير المسجد وتداعى دوره الريادي مقارنة بما كان عليه في صدر الإسلام.
طبعاً أن التحولات الثقافية التي شهدها الغرب بعد عصر النهضة كانت قد أدّت إلى محاربة الدين على الصعيد الاجتماعي. وفي القرون الأخيرة أخذ ينظر إلى المسجد على أنه مجرد مكان للعبادة.
غير أن النهضة التي اطلقها سماحة الإمام الخميني، قادت إلى احياء المفاهيم والمظاهر والرموز والتوجهات الإسلامية.. واحدثت تحولاً في فاعلية الدين واستعادة المسجد لدوره الذي كان يضطلع به في صدر الإسلام. وفي هذا الصدد يقول الإمام الخميني:
(المسجد في صدر الإسلام كان دائماً مركزاً لانطلاقة التحرك الإسلامي. فمن المسجد كان ينطلق التبليغ الإسلامي.. ومن المسجد كانت تتوجه الجيوش الإسلامية لمقاتلة الكفار وضمهم تحت لواء الإسلام. فالمسجد في صدر الإسلام كان دائماً بؤرة التحرك ومركزاً للحركات)(18).
فمن وجهة نظر القيادة، المساجد خنادق ينبغي أن تكون منطلقاً للغزوات في محاربة الأعداء.(19) وأماكن للثورة الفردية، أي تهذيب الأخلاق وبناء النفس.(20) ومراكز للتجمع لصلاة الجماعة التي تشكل مظهراً لتكاتف وتآزر ووحدة المؤمنين.(21) ومحل لتبادل أخبار المجتمع وتعميق الرؤية السياسية – الثقافية والدينية لأبناء الشعب. وفي هذا الصدد يعلن إمام الأمة في بيان اصدره عام 1979، بأن خطباء المساجد تقع على عاتقهم مسؤولية لفت انظار الشعب للمصائب التي حلّت على هذا البلد طوال الخمسين سنة من الحكم البهلوي، وتوعيتهم بأبعادها.(22)
واليوم تشكل المساجد في العالم الإسلامي مكاناً لتجمع الثوريين، ولهذا تحاول الأنظمة الحاكمة في بلدان نظير مصر والجزائر والدول الأخرى، مراقبة المساجد والتحكم بها ويتم تعيين خطبائها من قبل الدولة. كل ذلك نظراً للدور الذي اضطلعت به المساجد في تصعيد الأحداث والإبقاء عليها ساخنة فاعلة ومؤثرة حتى تحقيق النصر للثورة. وان محاولة النظام التصدي لتحرك عدد من المساجد مما  أدّى إلى اغلاقها وتعطيل بعض الحسينيات واحراق بعضها الآخر، إنما يوضح ماهية الثورة وهويتها، وبعبارة أخرى دور الإسلام في تكوين الثورة وبلورتها.
وفي السنوات التي سبقت الثورة، كانت بعض المساجد تتمتع بشهرة خاصة نظراً لدور خطبائها الثوريين والحضور الجماهيري الثوري الواسع الذي كانت تحظى به. وفي المدن ومراكز المحافظات ثمة مساجد خاصة شكلت بؤرة رئيسية لتجمع الثوريين، فيما اضطلعت المساجد الأخرى بدور القواعد والثكنات الناشطة في هذا المجال.

واو – الرموز الإسلامية
تعتبر الرموز الإسلامية مظهراً من مظاهر التضامن الاجتماعي، وان مناسبات من قبيل تاسوعاء وعاشوراء والأعياد الإسلامية هي من جملة هذه الرموز.. غير أن النظام السابق كان يسعى لأن تحل محلها مناسبات من قبيل التتويج والتربع على العرش. وبالتالي محاولة خطف الأضواء من تلك الرموز التي تمتد جذورها في الإسلام والثقافة الإيرانية ودفعها إلى الاندثار.
ومن الواضح أن الرموز الإسلامية تعد من المؤشرات الأخرى الدالة على دور الإسلام في نشوء الثورة.. وان أكبر واوسع الاحتجاجات الشعبية طوال أحداث الثورة، تجسدت في ذكرى تاسوعاء وعاشوراء الإمام الحسين.. كما أن ذكرى انتفاضة الخامس عشر من خرداد كانت قد اقترنت مع أيام عاشوراء. ففي عام 1978 شارك أكثر من مليونين شخص في التظاهرات والمسيرات التي خرجت في هذا اليوم بطهران مما أثارت دهشة وحيرة المراقبين الأجانب.(23)
وتعد إقامة مراسم تكريم الشهداء، رمز آخر من الرموز الدينية التي ساعدت في مواصلة مسيرة الثورة. وكان ذلك قد بدأ منذ عام 1977. يقول أحد الكتّاب الأجانب بهذا الشأن: (تعتبر إقامة مراسم الأربعين من أفضل النماذج على تسخير التقاليد الشيعية لخدمة الأهداف السياسية)(24).
وبالالتفات إلى الدور الذي كان يضطلع به شهر محرم وصفر في تنامي الثورة واستمرارها، كان سماحة الإمام الخميني يؤكد كثيراً على الحفاظ على هذه الشعائر والتقاليد وكان يعدها الضمانة لصيانة الثورة واستمرارها.(25) وفي هذا الصدد يقول الباحث حميد عنايت: (حاول الإمام الخميني التركيز على واقعة كربلاء وتسخيرها لاثراء التحرك السياسي، أكثر من أي فقيه آخر من الفقهاء الشيعة ممن هم بمنـزلة يمكن مقارنتها بمنـزلته)(26).
وبهذا النحو يمكن القول أن انطلاقة الثورة كانت في وقت وظرف ساعد إلى حد كبير في تسارع عجلتها الثورة. إذ اقترنت بأوقات ومناسبات دينية ذات صلة وثيقة بتاريخ الإسلام من قبيل تاسوعاء وعاشوراء وأربعين الإمام الحسين (عليه السلام) وأمثال ذلك.

حاء – روحية طلب الشهادة والإيثار
الإسلام يدعو اتباعه إلى الجهاد والتضحية بالغالي والنفيس في التصدي للظلم والدفاع عن الحق والحقيقة. وان المقاومة والصمود في الجهاد يفضي حيناً إلى النصر وينتهي بالموت حيناً آخر، الذي يعبر عنه في الثقافة الإسلامية (بالشهادة). ويحفل تاريخ الإسلام بالنهضات الشيعية التي تطمح إلى سيادة الاسلام والذود عنه. وفي ظل الدين الإسلامي الذي يبعث على الحياة، يعتبر الموت والقتل، الذي ينظر إليه بمثابة أمر مؤلم دائماً، سبيلاً للسعادة وينظر إلى الشهادة بمثابة فوز عظيم.
وطوال مسيرة الثورة ظهرت كتابات مهمة حول (الجهاد) و(الشهيد)، وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى كتاب الشهيد مرتضى مطهري على سبيل المثال، في وقت قلما كنت تجد مثل هذا من قبل. ويدل هذا الأمر على مدى تأثير نهضة الإمام الخميني الإحيائية ونشاط المفكرين الإسلاميين الآخرين.. لقد جسدت الثورة الإسلامية عملياً الكثير من الآيات والأحاديث لاسيما في مجال (الشهادة) و(الجهاد). ومن جهة أخرى، شكل تحليل مضمون بيانات القيادة حول الشهيد وطلب الشهادة، بحد ذاته دافعاً ومحركاً لمواصلة التحرك الثوري. كما أن وصايا شهداء الثورة ودعواتهم لأبناء الشعب للحفاظ على مسيرة الثورة، كان لها دور مؤثر في الإبقاء على المسيرة الثورية حية فاعلة.
وان مثل هذه الوصايا، التي تعتبر تجسيداً لما يختلج في قلوب شهداء الثورة وتطمح إليه نفوسهم، كانت تستمد فحواها من المفاهيم الإسلامية إذ كانت تبدأ بالشهادتين وكانت تدعو المؤمنين إلى الثبات على العقيدة واتباع القيادة على طريق احياء الإسلام.
ومن الناحية التاريخية، يمكن العثور على النموذج البارز للتطوع للشهادة في سيرة الإمام الحسين (عليه السلام)، الإمام الثالث من أئمة الشيعة، واستشهاده مظلوماً.. وان الكثير من الحركات الثورية والنهضات الإسلامية استلهمت نهجها من نهضة عاشوراء. وطوال مسيرة الثورة اوجد استشهاد بعض الثوريين زخماً هائلاً من الحماس والاندفاع والثورة، وان استشهاد نجل الإمام الخميني في عام 1977، يعد نموذجاً لذلك. وفي هذا الصدد يذكر أحد كبار المسؤولين في النظام السابق في معرض تحليله للثورة الإسلامية مشيراً إلى عامل طلب الشهادة قائلاً: (إن التأمل في المزيج الذي ظهر في إيران بين الدين والطاقات الشابة، يكشف السر الرئيسي وراء سقوط الشاه. وفي هذا الصدد إذا ما استطاع المرء أن يتعرف على أهمية التطوع للشهادة في المذهب الشيعي، سوف يدرك جيداً – دون شك – بأن قدرة المقتول تفوق بكثير قدرة القاتل)(27).
إن مسيرة الاحداث التي شهدتها سنوات الثورة، توضح بأن قائد الثورة كان يؤكد في العديد من المواقف على مفاهيم من قبيل الشهادة، والصبر، والإستقامة، والإيمان بمبدأ (إحدى الحسنيين). واستناداً إلى مبدأ أداء التكليف الإلهي، أعلن إمام الأمة: أننا نحرص على أداء تكليفنا الإلهي وسننال إحدى الحسنيين.

طاء – شعارات الثورة
الشعارات تنبثق دائماً عن القناعات والأهداف السامية للمجتمع. وفي رؤية تحليلية يمكن القول: إن الشعارات التي طرحت طوال مرحلة الصراع والمواجهة مع النظام، كانت تعبر عن الماهية الفكرية للثورة. فالثوار لم ينـزلوا إلى الساحة بشعارات الخبز والجنس والرخاء، بل ما كان يستحوذ على اهتمامهم ويثير حفيظتهم إنما هو تعاليم الإسلام وثقافته. إن الشعارات التي رفعها الثوار طوال سنوات تنامي أحداث الثورة كانت نابعة عن الإسلام، وان ابرز مطالبهم تمثلت في إقامة الحكومة الإسلامية واحياء الدين.
ففي تحليل لاحصاء نشر عن الشعارات التي كتبت على الجدران عام 1978، اوضح بان أكثر من 90 بالمائة من الشعارات، من مجموع 1077 موضعاً، كانت مكرسة للهجوم على النظام السابق ومسؤوليه، ومساندة الإمام، وتأييد الإسلام والحكومة الإسلامية، وتمجيد الشهداء، والسعي على طريق وحدة الجماهير لمواصلة النضال. وان الـ 10 بالمائة المتبقية كان 8ر5 بالمائة منها عبارة عن شعارات متفرقة لا تدور حول محور محدد، غير أنها مع ذلك كانت تنصب في إطار تشويه صورة النظام.(28)

الاستنتاج
لقد تمت دراسة الثورة الإيرانية وتقييمها من جوانب عديدة. وفي هذا البحث حاولنا التعرف على دور الإسلام والثقافة الدينية. وان إحدى القضايا المهمة في تنامي الثورة الإيرانية تمثلت في انطلاقتها بوحي من ارادة الشعب المسلم وحرصها على صيانة الثقافة الإسلامية. وعلى حد قول أحد المنظرين للثورة، إن الثورة الإيرانية قد تم صناعتها. فلم يكن الأمر مثلما يحاول البعض أن يروج له، بأن الثورة الإيرانية كغيرها من الثورات مجرد تحرك برز إلى الساحة في مرحلة تاريخية، وخلال هذه المرحلة الانتقالية تعد شعار تصدير الثورة أمر تافه وعديم المعنى وليست بالنموذج الذي يمكن ترشيحه للشعوب المسلمة الأخرى.
طبعاً أن مثل هذا الكلام ناتج عن سيادة النظرية البنبوية لمعرفة المجتمع التي تستحوذ على اهتمام عدد من المنظرين. وبناءً على هذه الرؤية، وعلى حد قول أحدهم، الثورات تأتي وتذهب.(29) غير أن الثورة الإسلامية مستثناة عن هذه القاعدة. كما يعترف هذا الكاتب بأنه قد تم صناعة ثورة فريدة في إيران.
وكون ماهية هذه الثورة ماهية ثقافية ويحتل الإسلام دور مصيرياً فيها، لا يعني هذا نفي العوامل الأخرى. إذ أن الثقافة الدينية كانت عاملاً أساسياً والعوامل الأخرى عوامل جانبية وهامشية.
ولتوضيح هذه النظرية تحدثنا عن ست خصائص: محاربة الإسلام، القيادة، دور المساجد، الرموز الدينية، روحية الإيثار وطلب الشهادة، وشعارات الثورة. حيث يوضح كل عامل من هذه العوامل، ومع الأخذ بنظر الاعتبار المعطيات التاريخية، يوضح دور الإسلام في إيجاد مثل هذا التحول التاريخي.
وربما تثار شبه هنا مفادها: إذا ما كان الإسلام عامل الثورة، فلماذا لم تشهد إيران طوال الأربعة عشر قرناً الماضية ثورة على الرغم من سطوع نور الإسلام؟ وان الإجابة على مثل هذا التساؤل يمكن توضيحها بنحو آخر: اننا، وبعد تراجع الحضارة الإسلامية، كنا قد بدأنا نشهد نضوج حركة الاصلاح الديني. فالمجتمع الإيراني وبعد أن جرّب التحركات الثورية في العقود الماضية وتعرف جيداً على التوجه القومي الغربي والاشتراكية الشرقية، عاد إلى هويته الأصلية. وفي هذه الأثناء برزت في المجتمع الإيراني نخبة مفكرة منها المرحوم العلامة الطباطبائي، ومن بعده تلامذته وتلامذة سماحة الإمام الخميني، الذين عملوا على إزالة النقاب عن وجه الثقافة الرائجة في المجتمع. وفي ضوء ذلك تم التخلص من التحليلات الخاطئة للمفاهيم الدينية، والتأكيد على الجوانب الإسلامية التي شكلت حافزاً ودافعاً للتحرك والثورة. وبناء على ذلك، انتهى المجتمع إلى أزمة (هوية) بعد أن اجتاز مرحلة التعارض الثقافي الذي كان حصيلة التعاطي مع الثقافة الغربية والمتغربين. غير أن اعطاء صورة صحيحة للإسلام ادّى إلى أن تنتهي هذه الأزمة بالعودة إلى الثقافة الدينية، واصبحت هذه الثقافة القاعدة الرئيسية لإنطلاقة التحرك في إيران.
الملاحظة الأخرى التي ينبغي عدم اغفالها في اندلاع الثورة، هي أن المجتمع الديني الإيراني، ونظراً لوجود الاستعمار الغربي والاستبداد الداخلي خلال المائة سنة الأخيرة، كان ينـزل إلى الساحة كلما سنحت الفرصة ورأى الظروف مواتية.. إن كلاً من الحروب بين إيران وروسيا في العصر القاجاري وقضية غريبا يدوف، ونهضة التنباك، والحركة الدستورية، وانتفاضة الغابة، وثورة الخياباني، وحادثة مسجد (كوهرشاد)، وحركة تأميم النفط، وانتفاضة عام 1963، كل ذلك يوضح دور الدين في الحركات الاجتماعية التي شهدها المجتمع الإيراني.
وأخيراً لابد من القول أن ثمة مجموعة من العوامل تضطلع بدور منظم في تكوين وبلورة كل ثورة، وان غياب أحد هذه العوامل يقود إلى عدم اندلاع الثورة او فشلها رغم وجود العوامل الأخرى. وحاول البحث حصر هذه العوامل على أساس نظري بأربعة عناصر وهي: الايديولوجية أو الإسلام، القيادة، النظم والتخطيط، والجماهير. وان غياب أياً من هذه العوامل التي تم التعرف على ابعادها من منطلق إسلامي، كان من الممكن أن يؤدي إلى عدم اندلاع الثورة أو هزيمتها.

الهوامش
1 – مرتضى مطهري، حول الثورة الإسلامية، وزارة الثقافة والإرشاد.
2 – انظر: بروس لينكلن، الدين والثورة. ترجمة حميد عضدانلو، اطلاعات سياسي اقتصادي، العددان 87 – 88، 1374.
3 – انظر: م. محمدي، الثورة الإسلامية مقارنة مع الثورتين الروسية والفرنسية، طهران، سعيد.
4 – انظر: السيد محمد باقر الصدر، السنن التاريخية في القرآن. جلال الدين فارسي، فلسفة الثورة الإسلامية، طهران، امير كبير، 1368.
5 – سورة الرعد، الآية 11.
6 – Revolution, theory and society. Vol. 11, 1982.
7 – مرتضى مطهري، مصدر سابق.
8 – حسين فردوست، ظهور الحكم البهلوي وسقوطه، طهران، اطلاعات، 1368.
9 – سيد حميد روحاني، تحليل ودراسة نهضة الإمام الخميني، طهران، طريق الإمام، 1365.
10 – انظر: محمد حسن رجبي، الحياة السياسية للإمام الخميني.
11 – للمزيد من الاطلاع يراجع: فخر روحاني، سقوط الشاه وانتصار الثورة الإسلامية، طهران، منظمة الإعلام الإسلامي، 1370.
12 – ثمة آيات كثيرة في القرآن الكريم تتحدث عن ذلك، منها الآية (لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً).
13 – شجاع احمدوند، عملية التعبئة السياسية في الثورة الإسلامية، طهران، ممثلية الولي الفقيه، 1374.
14 – الاستاذ محمد تقي مصباح، 1370.
15 – سيد حميد روحاني، مصدر سابق، ج1.
16 – شجاع احمدوند، مصدر سابق.
17 – عباس سعيد رضواني، الرؤية الإسلامية والظواهر الجغرافية، مشهد، الآستانة الرضوية المقدسة، 1368.
18 – صحيفة الإمام، ج18.
19 – المصدر السابق، ج1 وج15.
20 – المصدر السابق، ج12.
21 – المصدر السابق، ج12 وج9.
22 – المصدر السابق، ج2.
23 – كلربريد وبير بلانشر: ثورة باسم الله. ترجمة قاسم صنعوي، طهران، سحاب، 1358.
24 – نيكي . ار. كدي.، جذور الثورة الإيرانية. ترجمة عبد الرحيم كواهي، طهران، قلم، 1369.
25 – صحيفة الإمام، ج15.
26 – حميد عنايت، الفكر السياسي للإسلام المعاصر، طهران، الخوارزمي، 1361.
27 – فريدون هويدا، اسرار سقوط الشاه، طهران، اطلاعات، 1371.
28 – مهدي محسنيان راد، دراسة الشعارات الجدارية في مرحلة الثورة، فصلية (رسانة)، العدد 4، شتاء 1369.
29 – Theda Skocpul, Ibid. P. 265.

ارسل هذا الخبر الی الاصدقاء