العرفان ... بين الامام الخميني(قدس سره) ومولانا

العرفان ... بين الامام الخميني(قدس سره) ومولانا

ان المتتبع لمسار الحقيقة والمعرفة الالهية، وما تضمنه ذلك، من اسرار ومواقف، تبهر العقول بعدما ترتفع الاستار عنها،  وتبدو للعيان مشرقة، ساطعة، تبدد انوارها الظلمات مهما بلغت ... انه، ليقف مهطع الراس، تعظيما واكراما للسائرين والسالكين، في هذا الطريق الوعر، المفعم بالصعاب والاشواك ... لكنه هين ومحبوب ومطلوب ... يريده السالك لنفسه واتباعه ومن تقرب اليه، ونزع يده من هذه الدنيا، لتخرج بيضاء لا لبس فيها ... فالطريقة والطريق، والسالك والعارف والنشوان، ان تقدموا للخطو على المسار، وشدوا العزائم وباعوا دنياهم وابتاعوا الاخرى، فقد فازوا وصدقت نواياهم، ورجموا الاوثان من بشر وحجر، وان نظر الناس اليهم بشزر، وعدوهم اصحاب ادمغة مضطربة، وسلوكيات مبعثرة هنا وهناك ! ... فهذا الامام الخميني (قدس سره)، الذي قاد اول ثورة اسلامية معاصرة، نابعة من سلسبيل الهداية الربانية، يغترف ما شاء الله تعالى له، من حوضها الكوثر ومنبعها الاوفر، مخلصا في دينه ومبتاعا خلودا بفناء، وقد تيسر له ذلك بفضل الله عز وجل وعنايته، والادلة كثيرة ... شتى، وما ادل، برهانا، لما ذكرت، الا الثورة المعجزة، التي لم يصدق احد بانتصارها، بايد خالية واصوات مدوية ! وقد اصطف  الطواغيت، صغارهم وكبارهم في كل مكان، ضدها وارادوا حجب نورها بكل ما استطاعوا ... وهل يحجب الغربال اشعة الشمس في وضح النهار ؟ ! ... فيا ترى، ماالذي هدى الامام (قدس سره) لقيادة الثورة ؟ ومن اعطاه قدرة تفوق على كل قدرة وسلطة ؟

و من اخى بين ابناءالشعب كافة، لتلبية ما يقوله القائد الفذ، والاشتياق للاستشهاد، زرافات ... زرافات ؟ وما السر في كل ذلك ؟ ... اهي الروح العظيمة التي حلت بين اضلاع الامام (قدس سره) والهمته بما كان يقوم به ؟ ... ام هي الارادة الالهية، القدسية، التي اخذت بيده واوصلته الى المكان الرفيع المرجو ؟ ام ... من كان مع الله، كان الله معه؟. لقد اخلص الامام، لله جل جلاله، فاخلص الله تعالى له، ومهد الطريق ليسير فيه، وهذا لعمري، هو، المعرفة الربانية، كما هي، والعرفان، كما هو، بحقيقته واسراره. هنالك من عاهد الله تعالى حقا وصدقا، ما خلت منهم الارض وما خلا منهم الزمن قط ... اختلفت اثوابهم واجتمعت افئدتهم، في مسير لا يسلكه ولا يتحمله، الا امثالهم ... ومن هذه الثلة، جلال الدين محمد البلخي، المعروف ب (مولانا) ... رجل طرق الشعر، ودخله من اوسع ابوابه، عارفا به وجاعلا اياه، حلقات وصل وخرق ... خرقة، تتبع اخرى، للوصول الى الحق والحقيقة المحضة، لتوعية وتنوير وتطهير الارواح، من دنس الدنيا ... فكثيرا ما كان الامام الخميني (قدس سره) يستشهد بابياته، لتبيان ما يرمي اليه وايصاله، الى كل من اشتاق الى معرفة وحق. فانت ترى في تراث الامام، تبلور افكار مولانا، يموج بين كلماته وعباراته، ومن خلال ذلك، يمكننا استنباط واستخراج رؤية عارف زماننا المعاصر، الامام الخميني( قدس سره)، بالنسبة لعارف القرن السابع الهجري، مولانا. ان ما تركه مولانا، في النظم والنثر، يدل على سعة ما كان يخزنه في صدره. فمن تراثه المنثور : فيه ما فيه، وهو مجموعة اسئلة واجوبة وخطب اعرب عنها في مجالسه. ومنها، ايضا، كتاب : المجالس السبعة، وهو ما تكلم به على المنبر. ومنظوماته : المثنوي المعنوي، وهو اهمها ... اثر تعليمي للطريقة، ويضم، كذلك، اشعارا في مواضيع دينية، كلامية وفلسفية. ان المثنوي في الحقيقة، سرد المصير الروحي للانسان، الذي لا نهاية له والراوي هو المزمار !. وله منظومة اخرى وهي، ديوان شمس، وهو مجموعة غزل ...

كان (مولانا) يعتقد ب : وحدة الوجود، وهو موضوع شائك لا تزال الدراسات حوله، على قدم وساق. يرى الامام الخميني (قدس سره)، ان فهم ودرك الكلمات والمصطلحات، التي استخدمها مولانا، تحتاج الى خبرة وتجربة خاصة ... ولم يكن ذلك ميسرا للكثير، حتى للحكيم الملا هادي السبزواري ! لان الوصول الى فهم ذلك يحتاج الى قريحة عرفانية. فقد ذكر الامام، في المجلد الثاني لتقريرات الفلسفة، الذي يضم مباحث على مستوى رفيع في الفلسفة : ان كثيرا من الناس يعتبرون شعر مولانا جبرا ! وفي الحقيقة، انه يعارض الجبر، والسبب انهم لا يدركون معنى الجبر ! ... (1). وهاجم سماحته في كتابه (الاربعون حديثا)، المعترضين على مبحث (وحدة الوجود) العرفاني، وكذلك هاجم الذين عارضوا المثنوي، قائلا : ليس من المعروف ان يكذب الانسان، ما لم يعلمه ! ويتعدى على صاحب العلم ! ...( 2). فالامام، يرى ان مولانا، عالم، ترك تعلقاته النفسانية ودخل وادي العرفان. في كتابه (مصباح الهداية)، يجعل الامام نفسه، حكما بين ابن عربي، الفيلسوف، العارف والشاعر الاندلسي، محيي الدين محمد بن علي العربي الطائي، المعروف ب : ابن عربي. من اهم مؤلفاته كتاب : فصوص الحكم، وموضوعه (العرفان النظري)، ويعتبر ارفع كتاب في المعارف الالهية في هذا المجال، وقد الفه اواخر عمره. ..  ينسب اليه حوالي 800 اثر، ترك منها 100 نسخة اصلية. ولد عام 1165 م في مورسيا _ اسبانيا، وتوفي عام 1240 م، في دمشق _ سورية ... وبين ابن الفارض المصري، وهو ابو حفص عمر بن علي، من شعراء القرن السادس الهجري المشهورين. ولد سنة 1181م .في القاهرة، مصر، وتوفي سنة 1234م. فيها. نظم في العرفان والسلوك والطريقة، فاجاد واحسن كثيرا. ذكر الامام (قدس سره)، ان ابن الفارض عند نظمه التائية الكبرى، كان في حالة جذبة وشوق وسكر، على اثر الحب الالهي ... وكانت تنتابه نوبات متتالية، مصحوبة باليقظة، ولم يكن معيرا لاهمية الطعام والشراب ! لانه عارف واصل ... تخطى درجات الولاية. .. (3).

لقد بقي شعره خالدا على مر الايام، ولاسيما قصائده (السلوكية) واخص منها، تائيته الكبرى، التي ذكرها الامام. هكذا ابتد ءها ابن الفارض :

سقتني حميا الحب راحة مقلتي

و كاسي محيا من عن الحسن جلت

فاوهمت صحبي ان شرب شرابهم

به سر سري في انتشالي بنظرة .

_____

ففي حان سكري حان شكري لفتية

بهم تم لي كتم الهوى مع شهرتي

و لما انقضى صحوي تقاضيت وصلها

و لم يغشني في بسطها قبض خشية.

و هذا ما اشار اليه الامام ... من جذابة وشوق وسكر وصحوة، لدى ابن الفارض. ومن اشعاره، ايضا، قصيدته الرائعة، التي قال في مطلعها :

شربنا على ذكر الحبيب مدامة

سكرنا بها قبل ان يخلق الكرم

لها البدر كاس وهي شمس يديرها

هلال وكم يبدو اذا مزجت نجم

ولولا شذاها ما اهتديت لحانها

ولولا سناها ما تصورها الوهم.

وقد تبارى كثير من الشعراء، طلبا للسير على خطاه، وعلى الرغم من اجادتهم، الا انهم لم يبلغوا ما بلغه ابن الفارض وما عبر عنه !.

اعتقد مولانا، بان الانسان المعنوي، لا يرتزق من الطعام والشراب، وانما من العوامل المعنوية. وهذا ما تمسك به الامام الخميني (قدس سره)، مبرهنا على ذلك ببيت من اشعار مولانا. اما كتاب (دعاء السحر)، فقد ذكر فيه، ابياتا من شعر مولانا، ايضا، تدل على ان من جاء الى الدنيا، جاء ليزرع لا ليحصد ! ذلك لان الدنيا مزرعة الاخرة. وفي كتاب : شرح حديث جنود العقل والجهل، فانه، حسب رؤية سماحته، ان الاستدلال بدون الايمان، لا يمكنه ايصال الانسان الى المقصد النهائي، مستشهدا بابيات من مولانا في هذا المجال. كما استشهد سماحته (قدس سره)، بمقاطع من كتاب : فيه ما فيه، في كتابه (الاربعون حديثا)، حول تجلي الاسماء الالهية... (4).

اما فيما يخص كتاب (اداب الصلاة)، فان الامام (قدس سره)، عند عرضه لـ : ترك التعلقات النفسانية، يذكر ابياتا في هذا المضمار لمولانا، ليستند بها على ما يقوله، حيث يلتفت الى ان كل سالك، يطوي منازل السلوك بانانية واستعلاء، فان رياضته باطلة وما سلوكه الا للنفس وليس لله ... فوثن نفسك هو ام الاوثان. وفي كتاب : تفسير سورة الحمد، يشير الامام، الى فهم غير صحيح لعدد من ابيات مولانا ... ويرى ان سبب ذلك، هو عدم الاطلاع على قضايا (تتعلق بموضوع الابيات). فالسلوك اذن، عند الامام الخميني (قدس سره)، ومولانا، ينبثق من منبع واحد، ويتم بيانه وعرضه بلغات شتى.

مما درجت عليه فيما سبق، يتضح لنا بصورة كاملة، القاسم المشترك بين عارفين فصلت بينهما سبعة قرون ! فمولانا، عارف القرن السابع الهجري، والامام عارف القرن الرابع عشر الهجري، والذي جمعهما هو النظر الصائب، عند الاثنين، حول قضايا لا تزال محط انظار الباحثين والدارسين في العالم الاسلامي.

_______

_ 1، 2، 3، 4 : نقلا عن (جماران) بتصرف.

_______

د. سيد حمود خواسته. القسم العربي _ الشؤون الدولية _ مؤسسة تنظيم ونشر تراث الامام الخميني (قدس سره).

ارسل هذا الخبر الی الاصدقاء