غزة والنذير العُريان: الخطر الوجودي القادم من الكيان الصهيوني

غزة والنذير العُريان: الخطر الوجودي القادم من الكيان الصهيوني

في تراث العرب قبل الإسلام، وُجد تقليد يُعرف بـ «النذير العُريان»، فكان أحدهم إذا رأى جيشاً زاحفاً على قريته، نزع ثيابه وصار يجري عارياً بين الناس وهو يصرخ لينبّههم، لأن العُري كان أقوى وسيلة للفت الانتباه والتحذير من الخطر القادم. اليوم، ما يحدث في غزة هو النذير العُريان المعاصر، لا بالركض ولا بالعُري، لكن بالتجويع والتقتيل والإبادة، في وضح النهار، وعلى مرأى العالم، من دون أدنى خجل من القانون الدولي أو مبادئ الإنسانية. لقد تجاوز الاحتلال الصهيوني كل ما يمكن أن يُسمى «قواعد اشتباك» أو «معايير دولية»، وضرب عرض الحائط بكل المواثيق التي تنظِّم الحروب وتحمي المدنيين. نحن أمام آلة عسكرية، وأيديولوجيا عنصرية، لا ترى في العربي والفلسطيني إلا مادة للإبادة أو الطرد أو التجويع. إن ممارسات الاحتلال في غزة منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى اليوم، كشفت عن ذروة الفجور والطغيان والتجبر والبشاعة في وجدان هذا الكيان، لا كحالة طارئة، بل كعقيدة راسخة ومشروع وجودي. غزة ليست حالة فلسطينية فقط... بل كاشفة لحقيقة الصهيونية لا يمكن بعد اليوم النظر إلى غزة كمسألة فلسطينية محصورة، أو باعتبارها فقط جبهة مقاومة داخلية. لقد أصبحت غزة اليوم، بكُل تجليات الصمود والمعاناة فيها، مرآة لضمير الأمة العربية، وكاشفة لصورة الكيان الصهيوني في لحظة التعرِّي التام من كل أقنعة التسامح والتعايش والتفاوض. إننا أمام كيان يقتل الأطفال أمام الكاميرات، ويجوِّع مليوناً ونصف المليون إنسان عمداً، ويقصف المستشفيات والمدارس والمساجد من دون حرج، ثم يدَّعي أنه يمارس «حق الدفاع عن النفس».
هذه ليست استثناءات، بل هي تجليات منهجية لعقيدة الأمن الإسرائيلي، التي تُبرِّر أي شيء، وأقسى شيء، بحجّة الحفاظ على وجود إسرائيل. والأسوأ من ذلك، أن هذه العقيدة لم تعد تُقاوَم عالمياً، بل تُموَّل وتُدعم وتُبرَّر من دول كبرى، على رأسها الولايات المتحدة ومعظم حكومات الغرب، التي تلبس قناع القانون الإنساني حين يناسبها، وتخلعه بلا حرج حين يتعلَّق بأمن إسرائيل. جغرافيا الاغتيال والقصف: من غزة إلى بيروت ودمشق وبغداد وطهران الكيان الصهيوني اليوم لا يكتفي بممارسة القتل في غزة أو الضفة، بل يمارس اعتداءاته أينما شاء، في لبنان وسورية والعراق وإيران، وكلها عمليات اغتيال أو قصف أو تخريب تُنفَّذ من دون حسيب أو رقيب. الحدود الدولية لا تردعه، ولا السيادات الوطنية تُرهبه، ولا مجلس الأمن يُحاسبه، بل إن بيانات الدول الكبرى تأتي أحياناً لتُبرِّر هذه الاعتداءات باسم «أمن إسرائيل»، وكأن أمن هذا الكيان مقدَّس، فيما دماء الأطفال في غزة لا تستحق حتى جلسة طارئة لمجلس الأمن. إن منطقة الشرق الأوسط كلّها باتت مُستباحة ما دام الاحتلال يملك تفويضاً مُطلقاً وغير مشروط من الغرب، وما دام الرد العربي محصوراً في الإدانات الخجولة أو المبادرات السياسية غير المربوطة بأدوات ضغط حقيقية. من الفرات إلى النيل: حلم صهيوني قديم يتنفس
الصحافة الإسرائيلية ذاتها لم تعد تُخفي طموحاتها، إذ تتحدَّث بصراحة متزايدة عن أن «الفرصة التاريخية» الآن متاحة لإعادة ترتيب الإقليم وفق ما يناسب مصالح إسرائيل الكبرى. وقد عاد للظهور مجدداً، في بعض الكتابات الصهيونية، الشعار القديم: «إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل». قد يبدو هذا جنوناً سياسياً، لكن ما يجري على الأرض، من تقسيم للخرائط، وتفكيك للدول، وتفريغ للمجتمعات، يشي بأن هناك مَنْ يعمل بصمت (أو بضجيج مسموح به) لتحقيقه. رسالة إلى الأمة العربية: حكومات وشعوباً لسنا في مقام تخوين أو صراخ عاطفي، لكننا أمام لحظة تستوجب إعادة تعريف ما يجري. إن الكيان الصهيوني لا يُشكِّل خطراً على فلسطين فقط، بل على بنية الإقليم كله، وعلى وحدة الدول، وعلى الأمن القومي العربي بمعناه الاستراتيجي. ولا يُعقل أن تبقى الشعوب العربية في حال من التلقي السلبي، تتابع صور الإبادة وكأنها نشرة طقس. كما لا يُعقل أن تبقى المنظومات الرسمية عاجزة عن استخدام أدوات الضغط السياسي أو الاقتصادي أو القانوني، فيما تملك كثير منها علاقات مباشرة أو غير مباشرة مع العواصم الفاعلة في هذا الملف. أما للعالم الإسلامي والمسلمين، فنقول: قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73]. هذه الآية الكريمة تكشف بدقة خريطة التحالفات الدولية اليوم، وتفسِّر بوضوح مشهد الواقع. الغرب، بكل دوله وأنظمته الحاكمة وطوائفه، يجتمع بلا تردُّد على نصرة الكيان الصهيوني: أميركا تقدِّم أكثر من 7 مليارات دولار دعماً مالياً، تمنع خمسة قرارات من مجلس الأمن لوقف إطلاق النار، ترسل حاملات الطائرات، وتوفر الغطاء الكامل، سياسياً وعسكرياً وتقنياً، وأوروبا تتكامل معها على ذات النهج. بعضهم أولياء بعض... هذا هو منطقهم، وهذا هو فعلهم، وهذه هي وحدتهم في الدعم والموالاة والنصرة. أما أنتم أيها المسلمون، فـ {إِلَّا تَفْعَلُوهُ}، أي إن لم تَفعلوا مثل فعلهم، وتَصِلوا بينكم روابط الولاء والنصرة، فإنكم تفتحون باب الفتنة في الأرض والفساد الكبير.
الفتنة ليست في المقاطعة، ولا في المقاومة، ولا حتى في الجهاد المشروع، إنما الفتنة الحقيقية في الخذلان، وفي التخلي عن واجب النصرة، وفي انقلاب الموازين. أن ترى أخاك يُذبح ويُجَوَّع وتبقى صامتاً، تلك هي الفتنة. لقد كشفت غزة أن المعركة لم تعد فقط مع الاحتلال، بل مع الضمائر التي خمدت، والعقول التي بَردت، والدين الذي تم تأطيره وفق تفسيرات مريحة للكسل والتراخي. الخاتمة: النذير العُريان يركض بيننا غزة اليوم ليست مجرَّد مأساة إنسانية أو حرب ضروس، بل هي ذلك الرجل العاري الذي يركض في السوق، يصيح: «أنقذوا أنفسكم، الخطر قادم!»، لكننا حتى اللحظة، لم نلتفت كفاية. مَنْ لا يرى في غزة نذيراً لما سيأتي، فهو في غيبوبة سياسية وأمنية وأخلاقية. إن الكيان الصهيوني، كما قال المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه «لا يريد سلاماً، بل يريد أن يُمحى الفلسطيني من الخريطة». ومَنْ لا يرى أن هذا المشروع قد يتجاوز حدود فلسطين، فهو يُعيد إنتاج أوهام «الاستقرار» التي كانت قبل 7 أكتوبر. آن أوان أن نُصغي للنذير العريان، قبل أن يتحوَّل الركض في الشارع إلى لهيب بالعواصم ولات حين ندم.

محمد الجارالله، وزير الصحة الأسبق.

-----------

القسم العربي، الشؤون الدولية، جريدة (الجريدة) الكويتية.

ارسل هذا الخبر الی الاصدقاء