الدكتور جلال جراغي
شكّلت الانتخابات الأخيرة في العراق مفاجأة كبيرة للكثيرين في داخل وخارج البلد. فمن العواصم الإقليمية إلى المراكز السياسية الغربية، كان معظم المحللين يتوقعون نتائج مغايرة لما حدث فعلاً. ووفقاً لتقارير وسائل إعلام إقليمية متعددة، كان الاعتقاد السائد أن تدخل القوى الأجنبية، ولا سيّما الولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى، قد يدفع بالعملية الانتخابية إلى مسار مختلف عن إرادة الشعب العراقي. وإلى جانب ذلك، كانت هناك مخاوف من أن يؤدي قرار التيار الصدري بمقاطعة الانتخابات ومواقف بعض القوى الأخرى إلى توتير المشهد السياسي.
وقد رسمت وسائل الإعلام الإقليمية في معظمها صورة قاتمة عن أجواء الانتخابات في العراق؛ فبينما عبّر بعض هذه الوسائل عن قراءته الواقعية للمشهد، كان بعضها الآخر يسعى بوضوح إلى بثّ الإحباط وزرع الانقسام داخل المجتمع العراقي. هذا المناخ أعاد إلى الأذهان أجواء انتخابات عام 2021، حين توقّع المحللون، استناداً إلى نسبة المشاركة التي بلغت آنذاك نحو 42%، أن تكون المشاركة في الانتخابات الجديدة أقلّ، بل وأن تتحوّل إلى ما يشبه «الفضيحة السياسية» لبغداد، غير أن النتائج جاءت على عكس تلك التوقعات، إذ سجّلت المشاركة، ولا سيما في اليوم الأول وبين صفوف العسكريين، ارتفاعاً ملحوظاً شكّل مفاجأة للمتابعين في الداخل والخارج على حدّ سواء.
العوامل التي أسهمت في المشاركة الواسعة في انتخابات 2025
تشير قراءة المشهد الانتخابي العراقي إلى وجود مجموعة من العوامل التي أدّت دوراً محورياً في رفع مستوى المشاركة الشعبية، أبرزها:
اولا، أداء حكومة السوداني المتوازن
انتهجت حكومة محمد شياع السوداني خلال الأعوام الأربعة الماضية سياسة متوازنة قائمة على الانفتاح والتفاهم مع القوى الإقليمية والدولية. وهذا النهج مكّنها من كسب ثقة مختلف المكونات السياسية والقومية والمذهبية، من الكرد والسنّة والشيعة على حدّ سواء، مما انعكس في زيادة مشاركة هذه الأطراف في الانتخابات الأخيرة، ولا سيما في المناطق السنية وإقليم كردستان التي شهدت حضوراً أكبر مقارنة بالدورات السابقة.
ثانيا، دور المرجعية الدينية في النجف الأشرف
أدّت المرجعية العليا في النجف الأشرف دوراً محورياً في تشجيع المواطنين على المشاركة الواسعة في الانتخابات. فقد ساهمت موقفها الصريحة إلى الاقتراع في تحفيز شرائح من المجتمع كانت مترددة أو فاقدة الثقة بجدوى العملية الانتخابية، حيث كان الموقف بشكل غير مباشر يحث على «المسؤولية الشرعية والوطنية» لكل مواطن، مما أعاد التأكيد على مكانتها كمرجعية أخلاقية واجتماعية في المشهد السياسي العراقي.
ثالثا، الموقف المسؤول للتيار الصدري
على الرغم من أن قرار السيد مقتدى الصدر بمقاطعة الانتخابات أثّر سلباً على نسبة المشاركة، إلا أن الطريقة التي أعلن بها قراره اتسمت بالمسؤولية والاتزان. فقد حثّ أنصاره على تجنب أي سلوك استفزازي أو محاولة لتعطيل العملية الانتخابية، مؤكداً على احترام خيارات الآخرين. هذا الموقف يعكس درجة عالية من النضج السياسي والديمقراطي في العراق، وهو ما يندر أن نشهده في كثير من دول المنطقة التي تتحوّل فيها المنافسة الانتخابية غالباً إلى صراع إعلامي وتبادل للاتهامات.
رابعا، حيوية الإعلام العراقي ومسؤوليته
شهد المشهد الإعلامي في العراق أداءً متميزاً خلال الانتخابات؛ إذ حرصت معظم المؤسسات الإعلامية، رغم اختلاف توجهاتها، على التركيز على البرامج الانتخابية واحتياجات المواطنين بدلاً من التحريض أو حملات التشويه. ورغم وجود منافسة وانتقادات متبادلة بين بعض الوسائل، فإن الخطاب العام بقي ضمن أطر مهنية ومسؤولة. ومن اللافت أن وسائل الإعلام العراقية، بخلاف كثير من نظيراتها الغربية والعربية، امتنعت بعد الانتخابات عن شيطنة التيار المقاطع أو توجيه الاتهامات له، في إشارة واضحة إلى ارتفاع مستوى الوعي السياسي والإعلامي.
الوسائل، فإن الخطاب العام بقي ضمن أطر مهنية ومسؤولة. ومن اللافت أن وسائل الإعلام العراقية، بخلاف كثير من نظيراتها الغربية والعربية، امتنعت بعد الانتخابات عن شيطنة التيار المقاطع أو توجيه الاتهامات له، في إشارة واضحة إلى ارتفاع مستوى الوعي السياسي والإعلامي.
خامسا، تأثير التحولات الإقليمية والدولية
جاءت انتخابات 2025 في ظلّ تحولات متسارعة في الشرق الأوسط: استمرار حرب الإبادة في غزة، وتبدّل العلاقات العربية مع الكيان الصهيوني، وعودة محور المقاومة إلى الواجهة، إلى جانب الضغوط المتزايدة على قوات «الحشد الشعبي» داخل العراق. ومع ذلك، نجح العراق في الحفاظ على استقراره الداخلي وعلى توازن دقيق في علاقاته مع كلٍّ من طهران وواشنطن وأنقرة والرياض، مما عزّز شعور المواطنين بالسيادة والاستقلال الوطني، وكان دافعاً إضافياً للمشاركة في الانتخابات.
في النهاية، يمكن القول إن الانتخابات الأخيرة تمثّل نقطة تحوّل في مسار انتقال العراق نحو مزيد من الاستقرار السياسي والاجتماعي. فخلافاً للتوقعات المتشائمة، أظهرت النتائج أن المجتمع العراقي يخطو بثبات نحو مرحلة جديدة من النضج السياسي والتسامح الاجتماعي والثقة الوطنية . وإذا ما استطاع البرلمان المقبل، كما يؤكد الخبراء العراقيون، أن يركّز على تشريع قوانين رصينة وعادلة تصون المصلحة الوطنية وتحمي البلاد من الضغوط الخارجية، فإن العراق سيكون أقرب من أي وقت مضى إلى أن يصبح نموذجاً إقليمياً لـ«الديمقراطية المتجذّرة والمستقلة.»
مدير مركز آفاق للدراسات الإيرانية العربية
----------
القسم العربي ، الشؤون الدولية ، جريدة (رأي اليوم).