الصديقة الكبرى

الصديقة الكبرى

بسم الله الرحمن الرحيم

          

    لم يكن اليراع ليخطو على صفحات بيضاء، يسطر عليها حروفا وكلمات، ليسرد ما جادت به البشرية جمعاء منذ الازل ولحد الان، وجاءت بشخصية لم يعرف لها الدهر مثيلا الى يوم اليقين ... لم يكن له ذلك، الا بالاستعانة بالله العلي القدير، وبتلك الدوحة النبوية، وسيدة نساء العالمين. انه يستعين بها ليتحدث عنها، وهو مدرك لهذه الحقيقة، بعدم الوصول الى كنه ورفعة المكانة والمقام، مهما بذل واجاد وازبد وارعد ! ... وقد تضمحل وتتهشم اقلام واقلام، وما تفي بذرة مما تريد، من تعريف للعالم اجمع، وللانسانية بكل ما تحتويه، بجزء يسير من حياتها الملكوتية المباركة، وسيرتها المكللة والمحاطة بالف ... الف قنديل ومصباح، لتضيئ مسار الحق والحقيقة، لمن اراد الخطو عليه واتخاذه نبراسا في حياته، وذخرا لما بعد حياته، وما كتبه عنها اصحاب الفكر والقلم، واعدادهم جمة صعبة الاحصاء، من شتى المشارب، الاديان والمذاهب، وسعوا للغور في محيط شخصيتها وما تتمتع به، بما امتلكوا من اذهان متوهجة وافكار متدفقة، حيوية، ليصلوا ولو الى هامش صغير من هوامش سيرتها، وليفوزوا بالجواب الذي ينتظرونه، وهو : يا ترى من هي البتول الزهراء (ع) ؟ ... الا انهم عادوا بخفي حنين ! ولم يحصدوا غير الحسرة على ذلك ! ... فكيف بهم، ولهم الحق، في معرفة ملك من ملائكة الله تعالى المقربين، بل واكثر ؟ واسمها بكامله يدل عليها. فعن النبي (ص) : لو كان الحسن شخصا، لكان فاطمة، بل هي اعظم. ان فاطمة ابنتي، هي خير اهل الارض عنصرا وشرفا وكرامة. (1). فهل هنالك قول افضل واصدق من كلام النبي (ص)، غير الله عز وجل في هذا الشان ؟ ... فمن اين يريد الانسان، مهما بلغ من الاجتهاد والعلم، ان يبدا بالحديث، عن شخصية لا مثيل لها في تاريخ الانسانية ؟ واي زاوية في التاريخ، منذ نشاته، لم تتعرض ولم تنطق باحرف من عسجد، لها ؟ وقد اجتمع المسلمون خاصة، بكافة مذاهبهم، وان افترقوا في غيرها، على ان الزهرا ء (ع) هي الفضلى، والشخصية العظمى، وهي اكليل الشرف الاعلى، على راس كل امراة في العالمين، وفي الدارين، حيث " اجمع اهل الحق قاطبة، تبعا للنصوص المستفيضة المتكاثرة، على فضيلة البضعة الطاهرة، عليها افضل الصلاة وازكى التحية، كما ذهب الى ذلك، ايضا، محققون من اهل السنة والجماعة، كالامام مالك، وابي بكر بن ابي داوود، وتقي الدين السبكي وغيرهم. ومنهم من عمل فيه تاليفا ". _ (2). فاهل الحق، اذن، مهما اختلفوا فيما بينهم باجتهادات هنا وهناك، لا يختلفون حول قطب الرحى وجوهرة الوجود، الزهراء (ع). وما يميز سيرتها وحياتها (س)، انها كانت حتى فی الدعاء، تفضل غيرها على نفسها ..." ... الجار ثم الدار ..." _ (3)، اي، استدرك من يحتاج اليك اولا، واكفه وكن عونا له، ثم نفسك بعد ذلك. ان الاثر الذي تتركه السلوكيات المختلفة، على مسار الانسان بشكل عام، وحياته الخاصة والعامة، قد يبقى معه الى اخر عمره، سواء كانت (السلوكيات) هدامة او هادية، والذي يتتبع حياة العظماء، اذا تمعن بنظرة فاحصة، ثاقبة، يرى ذلك بوضوح لا لبس فيه، وخاصة فيما يتعلق بانسان عظيم الشان كفاطمة (ع). فقد كانت في سلوكها، حتى مع المناوئين لها، ذات اخلاق رفيعة، عالية كوالدها الرسول الاعظم (ص)، حينما وصفه القران الكريم بالقول :  " ...و انك.لعلى خلق عظيم ...." _ (4)، وهو الذي قال فيها مما قال، اخذا بيدها : " من عرف هذه، فقد عرفها، ومن لم يعرفها، فهي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة مني، وهي قلبي وهي روحي التي بين جنبي، من اذاها فقد اذاني، ومن اذاني فقد اذى الله ." _ (5). هكذا تكون العظمة، وهكذا يكون الشرف العلوي، الملكوتي، فهي كما اجمع علماء المسلمين قاطبة، واجبة الطاعة. عن ابي جعفر (ع) في حديث طويل : " ... لقد كانت عليها السلام، مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله، من الجن والانس، والطير والوحوش، والانبياء والملائكة ." ؟ (6). ان العالم الاسلامي، اليوم، في امس الحاجة، الى تعاليم البتول (ع)، واتخاذها سراجا منيرا، ونبراس هداية، يضيئ الدرب لكل من يريد السير، على الصراط المستقيم، وما جاء به الدين القويم، لاسيما بعد ان احاطت شتى الفتن بالدول الاسلامية، ووقف لها الاعداء بالمرصاد، لتمزيقها وتفتيتها، وقد نجحوا في ذلك الى حد ما ! وما خلاصهم ونجاتهم، الا باتباع خطوات الزهراء (ع) والائمة الاطهار (ع)، فهم المعنيون باية التطهير. عن النبي (ص) : " انزلت اية التطهير في خمسة، في، وفي علي وحسن وحسين وفاطمة ." _ (7)، التي هي كما وصفها الرسول الامجد (ص) : سيدة اهل الجنة فاطمة ." _ (8). ومهما نغور في اعماق محيط ما تضمه (س)، وما تحتويه من درر يتيمة، لا نجني غير فقاعات تطفو على السطح ! لان ذلك بعيد المنال، لكل باحث وصاحب نظرية ورؤية ! وما هو متواجد من نصوص في الساحة الدولية، وعلى مر السنين والدهور، الا غرفة كف من محيط مترامي الاطراف ! لعل الايام والازمنة والاجيال القادمة، تتوصل الى شيئ ما، يزيح الستار عن ملك من الملائكة الاجلاء، كان يمشي على الارض ويساير الناس، ويختلط بهم وما عرفوا قدره ! . في تفسير نور الثقلين والبرهان وبحار الانوار، نقلا عن تفسير فرات بن ابراهيم الكوفي، مسندا عن الامام الباقر (ع) في تفسير سورة القدر، قال : " ان فاطمة هي ليلة القدر، وانما سميت فاطمة، لان الخلق فطموا عن معرفتها. ما تكاملت النبوة لنبي حتى اقر بفضلها ومحبتها، فهي الصديقة الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرون الاولى. " ... فاين نقف، نحن، من الطريق وما زلنا في مفترقه ؟ وهل توصلنا، حقيقة، الى معرفة المسار الصحيح، الذي خطه الله تعالى لنا، وارشدنا اليه بانبيائه (ع) واوليائه الصالحين، وعلى راسهم، اشرفهم واقربهم منزلة عند الله جل جلاله، محمد (ص) وعلي امير المؤمنين (ع) وفاطمة (ع) ؟. عن انس مرفوعا : " حسبك من نساء العالمين، مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، واسية امراة فرعون. " ؟ (9). فاي كلام يليق بالبتول (ع) في هذا المجال ؟ واي منطق لا يتلعثم، وهو يتطرق الى مناقبها وفضائلها الجمة ؟. في ذكرى انتقالها الى جوار الباري تعالى، وقد اخبرها بذلك الرسول الاكرم (ص) بقوله : " فاطمة، انت اول اهل بيتي لحوقا بي ." _ (10)، حيث لم يطل اللحاق كثيرا. قال امير المؤمنين (ع)، عند فراغه من ايداع الزهراء( ع) التراب، محولا وجهه الى مرقد رسول الله (ص) : " السلام عليك يا رسول الله، عني وعن ابنتك النازلة في جوارك، والبائنة في الثرى ببقعتك، والمختار الله لها سرعة اللحاق بك. " _ (11). في هذه الذكرى ما  لنا ونحن نستذكر الرحيل الاليم، الا ان نرفع ايدينا الى الله المتعال، ونبتهل اليه، بان يوفقنا في طريق الحق، وعلى خطى ام ابيها (س)، مرددين ما قاله علي امير المؤمنين (ع) على شفير القبر :

لكل اجتماع من خليلين فرقة

وكل الذي دون الفراق قليل

وان افتقادي فاطما بعد احمد

دليل على ان لا يدوم خليل. (12).

و هکذا قال سماحة الامام الخميني (قدس سره )، في شخصية الزهراء (ع) : " ان جميع الابعاد الكمالية المتصورة للمراة، والمتصورة للانسان، قد تجلت في فاطمة الزهراء سلام الله عليها. انها لم تكن امراة عادية، بل كانت امراة روحانية، امراة ملكوتية، انسانا بتمام معنى الانسان، بكل الابعاد الانسانية، حقيقة المراة الكاملة، حقيقة الانسان الكامل، انها ليست امراة عادية، بل موجود ملكوتي، قد ظهر في العالم في صورة انسان، موجود الهي، جبروتي ظهر بصورة امراة ." _ (13) .

_______

1-       ملتقى البحرين للمرندي، ص14.

2-       كتاب (الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء _ ع _)  للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين.

3-      رواية مشهورة، منقولة عن الزهراء (ع)، توصي بها ولدها الامام الحسن (ع).

4-      الاية 4، القلم.

5-      دلائل الامة، ص 228.

6-      كفاية الطالب، ص 311.

7-       صحيح مسلم، مؤسسة عز الدين، بيروت.

8-      سيرة اعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، تحقيق شعيب ارناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت.

9-      مسند احمد، 3/135، سنن الترمذي، 5/703، المستدرك ،3 / 157.

10-  كشف الخفاء ومزيل الالباس، الشيخ اسماعيل العجلوني، مؤسسة الرسالة، بيروت.

11-  امالي المفيد، 281/ 7. امالي الطوسي، 166/109.

12-  الكامل، المبرد، 4/ 30. شرح ابن ابي الحديد، 10/ 288.

13-  صحيفة الامام العربية، ج 7، ص 250 .

______

د. سيد حمود خواسته، باحث واكاديمي. القسم العربي، الشؤون الدولية، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الامام الخميني (قدس سره) .

ارسل هذا الخبر الی الاصدقاء