الدعوة الى الوحدة

الدعوة الى الوحدة

ما أكثر ما سُمعت عبارات الدعوة إلى الوحدة على لسان الإمام الخميني (قدس سره)، ولطالما حثّ مختلف طبقات الشعب ومسؤولي الدولة والحكومة والقوّات المسلّحة وغيرها على اتباع نهج الوحدة، وكان يستند في دعوته هذه أحياناً إلى الآيات القرآنية ومقتضيات الدين. ومن كلامه حول الوحدة نستعرض ما يلي:

"لعلّكم تعلمون بأنّ الإيمان والمؤمنين هما اللذان أوصلا هذه النهضة وهذه الثورة إلى مشارف النصر كما صرّح بذلك القرآن الكريم، فقد كانوا جميعاً إخواناً ولم يفرّقهم شيء أبداً... ولعلّكم تلمون كذلك بأن بلادنا بحاجة اليوم إلى قوات مسلحة متحدة مع بعضها، وإذا لم يكن هناك أيّ تفاهم أو تعاون بين اللّجان الأمنيّة وبين فالق الحرس -لاسمح الله- فلن تصلوا قطّ إلى هدفكم الذي هو الاسلام، فلا يقولنّ أحدكم: أنا من اللجان واللجان هي الأفضل ؛ ویقول رجل الحرس الشیء نفسه. فقط فكّروا في أن تؤدوا واجباتكم بروح أخويّة، واعملوا طبقاً للمبدأ القرآني القائل بأنّ المؤمنين إخوة؛ كونوا رفاقاً متحابّين، وأحبوّا بعضكم بعضاً وتمنَّوا الخير للجميع، وانبذوا الأفكار والخواطر النفسيّة التي تسوّل للبعض الفصل بين الحرس واللّجان. هذا هو رمز نجاح المجتمع " (صحيفة النور، ج7، ص40).

الواجب الشرعي والحفاظ على الوحدة:

بما أنّ العمل السياسيّ يمثل أساساً مسؤوليّة شرعيّة من وجهة نظر الإمام التكليفيّة، فإنّ الكثير من الأمور الخاصّة بالمشاركة السياسيّة، كالمشاركة في العملية الانتخابية أو تأييد النظام (الحاكم) من خلال التجمعات والمؤتمرات والمسيرات وغيرها، إنّ هذه الأمور ربّما تعتبر حقاً من حقوق الشعب من وجهة نظر المفكّر السياسي، إلا أنها تمثل برأي الامام تكليفاً وواجباً ينبغي للفرد القيام به.

وما من أحد ينكر تأكيدات سماحته على عواقب إهمال عامل الوحدة والاتحاد والألفة بين أفراد المجتمع، إذ كان يعتبر إضعاف الوحدة والمساس بمقوّماتها يعادل (كبائر الذنوب)، ويعدّ (جريمة كبرى)، وهي تعابير قلّما تستخدم حتى في الحالات التي يتّم فيها مخالفة الأحكام الشرعية الابتدائية كما هو واضح.

وفي ذلك يقول الامام (قدس سره):

" ... وإذا صادف أن حدث مثل هذا الشيء في وقت ما، فإن ذلك يعدّ جريمة، إنّ هذه المسألة [ إضعاف أركان النظام ونشر الفُرقة] تمثّل جريمة كبرى" (صحيفة النور، ج12، ص118).

ولا ريب في أنّ المزايا التي يتحلى بها الامام الخميني وخاصة أنه كان مرجعاً دينياً قبل انتصار الثورة الاسلامية، هي التي جعلت عموم أفراد الشعب المسلم يتقبّلون بسهولة إعلانه لـ (حكم الشريعة) في مثل هذه المسائل. ولعلّ ذلك كان السبّب الرئيس الذي دفع بالكثير من المسؤولين العسكريين والرسميّين في ذلك الوقت (1987 م) إلى الصمت، وعدم إبراز آرائهم المتمثلة في القبول بدعوات وقف القتال، والتحذير من مغبّة الاستمرار في التقدّم في أراضي العدوّ.

ولابدّ من الاشارة هنا إلى أنّ التكليف الالهي والشرعي يتمثّل في فعل المكلّف، ولذلك فإنّ الامام لم يعتبر التوافق الفكري والقبول الضمني أمرين متعلقين بالتكليف  الشرعي، ولم ير في مجرد الاختلاف في وجهات النظر "إثماً" أو "معصية" على الإطلاق، إلاّ أنّ الحرام في نظره كان " إظهار" الخلاف والتصريح بما يثير الفرقة، وكلماته التالية تبيّن بوضوح هذا المعنى الذي أشرنا إليه:

"بالطبع، نحن لانستطيع تجنّب مايدور في خلجات أنفسنا بشكل مطلق، فليست لنا مثل هذه القدرة، لكننا نمتلك القدرة على التحكم بأنفسنا وعدم إظهار ما نضمر في ضمائرنا. ربما لانستطيع تجنب معارضة في العمل. إننا اليوم مكلفون شرعا وهو تكليف الهي باننا حتى لو كنا لا نود بعضنا فلا بدّ لنا من التصرف والعمل خلاف ما نضمر أنفسنا في الفعل والذّكر والتبليغ. وهذا شيء يمكن لأي إنسان أن يفعله. فالإنسان يمتلك القدرة على الفعل والعمل ولذلك فإنّ الله [سبحانه] سيؤاخذه على الفعل" (صحيفة النور، ج20، ص 73-74).

 

الوحدة رمز انتصار الثورة واستمرارها

عند تحليله العوامل الأساس التي عجّلت في انتصار الثورة الاسلامية في ايران، يشير سماحة الامام الى عاملين رئيسيين من تلك العوامل، هما: أولاً: الاسلام، وثانياً: الوحدة والتضامن بين الطبقات الشعب جميعاً. فقد كان يعتبر عامل (الوحدة والألفة) مفتاح النجاح والتوفيق. وفي ظروف الحرب الصعبة التي عصفت بالجمهورية الاسلامية الايرانية، كان يطرح المشاكل العديدة التي تعترض النظام ونقاط الضعف التي يعاني منها في تلك الظروف، بيد أنه لم يكن يشعر إطلاقاً بأي قلق بسبب الحملات العسكرية أو الحظر الاقتصاىي الذي كان يفرضه العدو الخارجي، بل كان قلقة الشديد ينصب على احتمال بروز الشقاق الخلاف في صفوف الامة والمسؤولين في النظام الاسلامي. كان سماحته يشير الى الوحدة وهدفها باعتبارهما مفتاحي النصر والنجاح، معنى ذلك أنّ  الوحدة لا تمثل مجرد تكتيك لتحقيق النصر بل هي تهيئ الارضية المناسبة للنصر، أما ما بعد ذلك فهو وجوب ترسيخ ذلك النصر وتعميقه والسعي إلى المحافظة عليه. في ذلك يقول سماحته: "أنّ الطموح الأعظم بعد النصر هو تثبيت أركان الوحدة" (صحيفة النور، ج11، ص 50، بتصرف).

 

مفهوم الوحدة من وجهة نظر الامام الخميني

والآن، هل كان الامام يفكر في الوحدة الايديولوجية ويطالب أتباعه وأبناء شعبه بالاتحادعلى أسس ايدويولوجية ثابتة، أم أنّ الوحدة الاستراتيجية كانت هدفه الأساس، أو ربما لم يفكر سوى باوحدة التكتيكية؟ وهل ثبت على رأيه منذ ما قبل انتصار الثورة وحتى آخر تصريح سياسي له في حياته، أم أنّ آراءه تغيّرت بحسب الاوضاع والظروف؟

لابد من الاشارة الى ان الامام الخميني كان صاحب مدرسة وفكر أسس على قواعدها بنيان حكومته التي ناضل من أجل إقامتها. وكما هو واضح انّ النظام العقديّ أو الايديولوجيّ لايتحمّل وجود أيّ عقيدة سوى العقيدة الحاكمة، بل إنّ هذا النوع من الانظمة لايؤمن باية حقيقة سوى حقيقة العقيدة المصطفاة، أمّا غاية مطلوبة فهي تطبيق الدين في المجالات والميادين المختلفة في المجتمع. ولكن مع هذا، فإنّ الواقعية التي وسمت العقيدة الدينية وشخصية الامام كانت العامل الرئيس وراء توافره على الوحدة الطلقة والايديولوجية. وقد اعترف سماحته شخصياً بوجود الاختلافات في الآراء والعقائد السياسية وحتى في الفروع الايديولوجية. وفي هذا يقول:

"ان كتب الفقهاء المسلمين الأجلاء ملئية بالاختلافات في وجهات النظر والآراء والأساليب والتصورات في العديد من المجالات العسكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعبادية وغيرها... ولابدّ من أن يكون باب الاجتهاد مفتوحاً على مصراعيه في الحكومة الاسلامية، بل إن طبيعة الثورة و النظام تقتضي على الدوام استعراض وطرح الآراء الفقهية الاجتهادية بحرية على الاصعدة كافة، حتى وإن كانت متعارضة ومتضادة مع بعضها، وليس بامكان احد منع ذلك أو من حقه الوقوف بوجهه" (صحيفة النور، ج21، ص 46-47).

 

الاصول التي تجمع بين المتّحدين

أنّه على الرغم من ايمان الامام بالاصول الاساسية التي تجمع بين المتحدين والمتآلفين، واعتقاده بأن مجرّد وجود عدو مشترك أو أهداف تكتيكيّة قصيرة الأمد أو عدم وجودها لايمثل قاعدة صحيحة للوحدة أو الاتحاد، فإنه لم يكن يؤمن بوجود وحدة شاملة تشمل جميع الجوانب والزوايا والتفاصيل العقائدية أو العلمية، بل وكان يعتبر ذلك أمراً بعيد المنال تماماً.

ويمكن اعتبار ما ورد في التصريح المذكور منسجماً مع الوحدة الاستراتيجيّة أكثر من غيره، حيث قال سماحته في تلك الرسالة:

المهم هو معرفة الحكومة والمجتمع بشكل صحيح ودقيق لكي يستطيع النظام الاسلامي على اساس ذلك وضع البرامج والخطط التي تصب في مصلحة المسلمين وذلك من خلال غيره الاعلان عن ضرورة وجود الوحدة في الاسلوب والعمل. (صحيفة النور، ج 21، ص47).

ولا تقتصر الوحدة المطلوبة بالطّبع على وحدة المنهج في العمل وعدم السماح للخلافات العمليّة بالظهور في المجتمع، بل إنّ ذلك مطلوب ولازم أيضاً في العقيدة بشكل مشترك ومنسجم. فعلى سبيل المثال، إذا كانت هناك جماعتان سياسيّتان في المجتمع الإسلاميّ، وكانت إحداهما لا تستند إلى الدين أو العقائد الدينيّة في الأساس (معنى أنّها كانت ملحدة) بينما كانت الأخرى مسلمة وموحّدة، ففي هذه الحالة ليس بإمكان وحدة الأهداف النضاليّة والوحدة العمليّة أن تعمل على توحيدهما على أرض الواقع، بل إنّ حصول الوحدة الواقعيّة بين هاتين الجماعتين هو أمر لا معنى له، وفي حال افترضنا وجود أيّ نوع من الوحدة بينهما فإنّ تلك الوحدة غالباً ما تكون وحدة تكتيكيّة، بينما يظلّ تحقيق الوحدة الإستراتيجيّة بينهما أمراً أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع.

 

ولهذا السبب فإنّ الإمام لم يمدّ يوماً يد الأخوّة إلى الذين كانوا يحملون أفكاراً معادية للدين أو كانوا رسميّاً (شيوعيّين)، بل ولم يعتبرهم إخوة النضال أو المقاومة.

 

لنقف قليلاً عند هذين السؤالين اللذين طُرحا على الإمام قبل انتصار الثورة الإسلاميّة بشهور قليلة (انظر كتاب: "بيان الثورة في مرآة الإعلام - الأحاديث والبيانات الصحفيّة للإمام الخمينيّ"، إعداد وتنظيم رسول سعاد تمند، تعريب عباس صافي، سلسلة الفكر الإيرانيّ المعاصر، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، ج 1، ص 281. المترجم ):

سؤال: سماحة آية الله! هل تُبدون أيّة رغبة أو أهميّة للتعاون مع العناصر الماركسيّة؟ وهل هناك أيّ انسجام أو تطابق بين أهداف حركتكم والماركسيّين؟ وهل أنتم قلقون بشأن أطماع الاتحاد السوفياتيّ في إيران؟

الجواب: "إنّ أهدافنا تختلف عن أهداف أولئك، فنحن نستند إلى الإسلام ونرتكز على التوحيد، وأولئك يعارضون كلا الأمرين. وأحكامنا هي أحكام إسلاميّة بينما لا يعترف أولئك بالإسلام. لذلك، فلسنا فقط لا نميل إليهم بل وكذلك لا نرغب في التعاون معهم ولن نفعل..( صحيفة النور، ج 4، ص 37).

في ضوء هذا الكلام الصريح، يبدو أنّ أحد مستلزمات الوحدة والتضامن الاجتماعيّ والسياسيّ هو الاتّحاد على الأقلّ في (عقيدة التوحيد) والأهداف (الإسلاميّة)".

 

ومن خلال تقسيم الخلافات النظريّة إلى (خلافات عقائديّة ومبدئيّة) و(خلافات سياسيّة وفرعيّة)، اعتبر الإمام شخصيّاً أنّ خلافات النوع الثاني غير مضرّة بالوحدة والتضامن في المجتمع بل اعتبرها سبباً للتطوّر والنموّ والشموخ، ولم يُبدِ قلقه بشأن ذلك إطلاقاً.

 

وفي الرسالة المذكورة (الرسالة التي تضمّنت توصيات حول تدعيم الأخوّة)، وعبر حديثه عن الموضوعات الفقهيّة والسياسيّة التي تقبل البحث والمراجعة واختلاف الرأي (كموضوع بحث حدود صلاحيّات الحاكم الإسلاميّ، ودور المرأة في المجتمع الإسلاميّ، وحدود الحرية الفرديّة والاجتماعيّة وغير ذلك)، كتب سماحته يقول: "عليكم أن تعلموا أنّه إذا اقتصرت الخلافات والمواقف على القضايا المذكورة فلا خوف على الثورة أبداً. أمّا إذا كانت الخلافات مبدئية فإنّ من شأن ذلك إضعاف النظام. أمّا هذه المسألة القائمة بين الأفراد والأجنحة الموجودة فهي مسألة واضحة، وحتى إذا كان هناك أيّ خلاف يتعلّق بالثورة بين هؤلاء فإنّه خلاف سياسيّ بحث على الرغم من الأوصاف العقائدية التي قد تُطلق عليه، وذلك لأنّ الجميع متفقون على المبادئ ولهذا أويّدهم. إنّ هؤلاء أوفياء ومخلصون للإسلام والقرآن والثورة وهم حريصون على بلادهم وشعبهم، وكلّ منهم يطرح نظريّة أو برنامجاً من أجل إعلاء كلمة الإسلام وخدمة المسلمين، ويظنّ أنّ ذلك يقود إلى النجاح والتوفيق. إنّ الأغلبيّة الساحقة في هذين التيّارين تطمح إلى أن يكون بلدهم مستقلاً، وكلاهما يسعيان إلى تخليص الناس من شرّ وهيمنة الطفليّين سواء منهم المرتبطون بالحكومة والسوق والشارع"( م.ن، ج 21، ص 47).

حدود الوحدة من وجهة نظر الإمام الخمينيّ

من المهمّ القول إنّ الوحدة المنشودة، من وجهة نظر الإمام، هي وحدة المسلمين أو المستضعفين لتحقيق الأهداف الدينيّة العامّة والوصول إلى الكمال والارتقاء المنشودين، وهذه الوحدة حدودها واسعة ومتراقية الأطراف، ومطروحة في مجالات متعدّدة ومختلفة.

 

وقد كان هاجس الإمام قبل انتصار الثورة الوحدة بين العناصر الثقافية والدينيّة في البلاد أوّلاً وقبل كلّ شيء، فقد عمل بذكائه المتميّز على التقريب بين شريحة علماء الدين والجامعيّين ما أمكنه ذلك، مؤكّداً على حاجة كلّ منهما للآخر، ومنبّهاً كلّ طرف إلى أخطائه وزلاته بأسلوب ليّن ومتسامح، فكانت شخصيّته موضع احترام وقبول معظم علماء الدين والجامعين. في هذا يقول سماحته:

"لقد بذلنا كلٍّ ما في وسعنا خلال السنوات الماضية للتقريب بين الجامعات والملالي ومدارس العلوم القديمة وطلبتها، وكذلك قرّبنا بين البازار وهاتين الطبقتين، وألّفنا بين هذه الجبهات المختلفة، وقرّبنا فيما بينها، وكنّا نوصي دائماً بوحدة الكلمة لكي تتمكّنوا من تحقيق ما تريدون"( صحيفة النور، ج 4، ص 92).

 

ثم يشير إلى اختصاص كل من الحوزة والجامعة، معتبراً أنّ هؤلاء مختصّون بقضايا الإسلام، وأولئك مختصّون في شؤون البلاد بالقضايا السياسيّة، وهذا يعني أنّ وجود كلّ منهما ضروريّ لتحقيق النصر الآتي.

 

لقد بنى الإمام آماله على وحدة هاتين الشريحتين معتبراً هذه الوحدة حجر الزاوية في المسيرة النضاليّة، إذ أنّهما - من خلال هذه الوحدة - يشكّلان عاملين رئيسين في إفشال مخطّطات القوى العظمى. وفي تحليله لنتائج الثورة الإسلاميّة، يقول: "لو لم تكن نتيجة هذه الثورة إلّا هذه الوحدة بين طبقة المثقّفين وبين رجال الدين لكفى بها ونعمت"( م.ن، ج 5، ص 22).

جوهر الوحدة ونطاقها

إنّ مشروع الوحدة لا يمكنه أن يتضمّن مبادئ واحدة ومتساوية. ويبدو أنّ الإمام كان ينظر إلى مبدأ الوحدة في الظروف المختلفة وفقاً لأُسس واهتمامات خاصّة.

 

ففي مراحل معيّنة من عمر الثورة الإسلاميّة عندما ركبت قوميات متعدّدة في إيران موجة العصيان، وأوقدت نيران الفتنة آنذاك مثل الأكراد واللورستانيّين(وهم أبناء محافظة لورستان - الواقعة غرب إيران ومركزها خرّم آباد -. المترجم -)والبلوش(أبناء إقليم بلوشستان - شرقيّ إيران ومركزه زاهدان -. المترجم ) والتّركمان (في الشمال)، وأصرّت على الحصول على الحكم الذاتيّ، وأرادت أن توجّه ضربة قاسية إلى الثورة الإسلاميّة ونظام الجمهوريّة الإسلاميّة الفتيّ، في تلك المراحل طرح الإمام مشروع "الوحدة القومية"، أيّ أنّه كان يعترف بالتعدّدية القومية ضمن إطار "الوحدة القومية". بطبيعة الحال إنّ الإسلام، على الأغلب، هو العامل الأصليّ وراء هذه الوحدة، من وجهة نظر سماحته، وليس "القوميّة الإيرانيّة"، ولأنّ الأكثرية الساحقة من الشعب الإيرانيّ تدين بالإسلام، فقد قدّم الإسلام على مسألة القوميّة الإيرانيّة.

 

وكان هذا النمط من الوحدة هو النموذج المفضّل في العديد من البلدان التي تستبطن

مشكلة التعدّد القوميّ، على سبيل المثال، كان (جواهر لال نهرو: 1889 - 1964-: سياسيّ هنديّ من موسّسي استقلال الهند الحديثة. كان تلميذاً للمهاتما غاندي وساعده الأيمن في بناء الدولة الجديدة. أصبح رئيساً للوزراء 1947 - 1964 - ومن زعماء العالم الثالث وأحد مؤسّسي حركة عدم الانحياز. المترجم) يدافع عن قيام هذا النموذج الوحدويّ في بلده الهند، الذي يجمع طيفاً واسعاً من القوميّات والأديان. كما عانى الاتّحاد السوفياتي (سابقاً) والمارشال (جوزيف بروس تيتو) في يوغسلافيا السابقة من هذه المشكلة فوجدا في فكرة الوحدة القوميّة حلّاً مقبولاً لمعالجة هذه المشكلة.

 

في ما يتعلّق بالأحزاب والقوى السياسيّة، فقد دفعت الخلافات التي كانت قائمة بين طبقة بعض رجال الدّين والشريحة الجامعية، بالإمام إلى تبنّي شعار الأخوّة والوحدة، حيث طرح هذه الفكرة من أجل التقريب بين وجهات النظر السياسيّة، وتصحيح أفكار ومعتقدات مختلف طبقات المجتمع إزاء بعضها. ولا ننسى أنّ هذا النّمط من الوحدة كان مطروحاً ضمن المبادئ الرئيسة للثورة الفرنسيّة، حيث كانت الدعوة إلى رفع شعار الأخوّة والهويّة القوميّة عنوان رسالتها الإنسانيّة.

 

وقد طرح الإمام شعار الوحدة الدينيّة والإسلاميّة على صعيد الأقطار الإسلاميّة و"الأمّة الإسلاميّة"، بل وذهب إلى أبعد من ذلك عندما طرح شعار "المستضعفين والمظلومين في الأرض".

 

العلاقة بين مبدأ الوحدة والمبادئ السياسيّة الأخرى

إذا اعتبرنا الوحدة بمثابة الانصهار "المطلق" والانخراط التامّ لجميع طبقات المجتمع والأحزاب في الأهداف الرئيسة وأُسس النظام الإسلاميّ وخططه وبرامجه، فإنّ ذلك سيعني صراحة تعارض وحدة المجتمع مع حريّة المعتقد والعمل والرأي و(تعدّد) الأحزاب.

وهذه حقيقة يمكن ملاحظتها في الأنظمة السياسيّة الأخرى حيث يتعارض تعدّد الأحزاب مع الوحدة الوطنيّة، ولهذا عارض البعض سياسة تعدّد الأحزاب في بلادهم، مثل الجنرال (شارل ديغول: 1890 - 1970-: جنرال فرنسيّ تزعّم قوّات بلاده قوّات فرنسا الحرّة - خلال الحرب العالمية الثانية. أصبح رئيساً للجمهورية 1959 - 1969م -. منير البعلبكي، قاموس "المورد"، "معجم الأعلام"، طبعة 1998م. المترجم )

 

وكذلك فعلت الفاشيّة والشيوعيّة حيث إنّها لم تكن ترخّص لمبدأ تعدّد الأحزاب لئلّا يحول ذلك دون الوصول إلى أهدافها وضياع الوحدة الوطنية.

 

وقد كتب أحد المفكّرين المعاصرين حول ذلك يقول: "في ما عدا الأنظمة السياسيّة التي تتبع سياسة الحزب الواحد، نجد في أغلب البلدان ذات التعدّدية الحزبيّة حدوث صراع بين عدّة أحزاب للوصول إلى سدّة الحكم. وخلال هذا الصراع على السلطة يسعى كلّ حزب من تلك الأحزاب إلى استقطاب أكبر عدد من الموالين والأعضاء، وبالتالي فإنّ سياسة تعدّد الأحزاب تتعارض والوحدة الوطنيّة" (عبد الحميد أبو الحمد، مباني السياسة "مبادئ السياسة"، ص 438).

 

وكان سماحة الإمام الخمينيّ أيضاً يرى - في تلك المرحلة - في مبدأ تعدّد الأحزاب عائقاً أمام وحدة الأمّة الإسلاميّة، وفي ذلك يقول: "يسعى هؤلاء ومعهم القوى العظمى وأعداؤنا الآن إلى استغلالكم، نعم استغلالكم من خلال الإيقاع بينكم. من هؤلاء؟ هؤلاء الجبهة الوطنية. من هؤلاء؟ هؤلاء هم (حزب) حركة الحريّة. من هؤلاء؟ هؤلاء شباب الحزب الفلانيّ. من هؤلاء؟ هؤلاء الجماعة الفلانية. جماعات متعدّدة ومختلفة، كلّ منها يكذّب الآخر ويفنّده. كلّ جناح عدوّ للجناح الآخر... وهكذا. هل تعلمون مقدار الضرّر الذي تتسبّبون به للإسلام؟ هل تعلمون مقدار الضرر الذي تسبّبونه لوطنكم وأيّة خدمة تقدّمونها لأميركا... ؟"( صحيفة النور، الطبعة الجديدة المنقّحة والمزيدة، ج 4، ص 91 - 92)

 

-        الوحدة الإسلامية في فكر الإمام الخميني  قدس سره، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، مركز الإمام الخميني الثقافي، الثانية، آذار 2009م- 1430هـ

 

ارسل هذا الخبر الی الاصدقاء