المواطنة والمشارکة فی الدولة الإسلامیّة المعاصرة –قراءة فی الفکر السیاسیّ عند الإمام الخمینی(قده) - القسم الاول

المواطنة والمشارکة فی الدولة الإسلامیّة المعاصرة –قراءة فی الفکر السیاسیّ عند الإمام الخمینی(قده) - القسم الاول

الدکتور حسین رحال،  باحث فی الفکر الإسلامیّ، من لبنان.

یعبّر الخطاب السیاسیّ للإمام الخمینی (قده) إبان انتصار الثورة الإسلامیّة فی إیران عن ضرورة تاریخیّة فی إظهار الموقف من فئات معیّنة من الشعب، وذلک لحظة ولادة دولة ونظام سیاسیّ وتشکّلهما على أسس جدیدة؛ ما یعطی هذا الخطاب بعده الحقیقیّ فی الربط بین الواقع والخطاب: الواقع السیاسیّ الذی یحتاج إلى الخطاب، والخطاب الذی یرید تبریر واقع جدید أو إنشاءه. فکلّ کلمة من هذا الخطاب تعنی تأثیراً محدّداً فی موازین القوى الاجتماعیّة، وتعنی -أیضاً- إمّا حلاً وإمّا تعقیداً وتأزیماً لموضوع جلیل القدر، مثل: دور الفئات غیر المسلمة وموقعها داخل النظام نفسه.

إنّ هذا الحصر المنهجیّ ضروریّ، لکی نبتعد عن الجدالات ذات الطابع الکلامیّ أو الفقهیّ أو المنطقیّ الذی طالما عصف بالمتون الأصولیّة والفقهیّة فی تناول مسائل حقوقیّة وقانونیّة ودینیّة، کتلک المرتبطة بدور الشعب فی الحکومة، وبحقوق غیر المسلمین ودورهم فی المتن الفقهیّ الإسلامیّ التقلیدیّ، ما حدا بنا إلى الترکیز على الفترة الأکثر حسّاسیّة، وهی فترة اندلاع الثورة الإسلامیّة فی إیران عام 1978م وانتصارها عام 1979م بقیادة الإمام الخمینی (قده)، وقیامه بمواجهة تحدّ فکریّ وسیاسیّ، هو دور غیر المسلمین فی النظام السیاسیّ العتید.

 

أولاً : المواطنة وعلاقتها بالدولة الحدیثة:

یرتبط مفهوم المواطنة -السائد حالیّاً- بظهور الدولة الحدیثة، ونشوء مفهوم السیادة فی أوروبا منذ معاهدة وستفالیا فی العام 1648م، التی کرّست الحدود وفق ما وصلت إلیه الإمارات والممالک بعد الحروب المتعدّدة، ومنها الحروب الدینیّة فی أوروبا[1].

وقد اتّخذ موضوع المواطنة داخل تلک الحدود شکل العلاقة بین الملک والرعیّة، حیث تخضع هذه الأخیرة خضوعاً کاملاً لسیادة الدولة-الملک على حساب انتماءات الأفراد، وخصوصاً الدینیّة (الکنیسة).

مع تطوّر مفهوم العقد الاجتماعیّ[2]، وعلى خلفیّة الاستعمار والنهب الأوروبیّ لبلدان العالم، تطوّر وضع المواطنین الاقتصادیّ والاجتماعیّ والقانونیّ فی أکثر من بلد أوروبیّ. ومع نضالات عدیدة للطبقات والشرائح المهمّشة، تطوّر مفهوم الحقوق المدنیّة داخل الدولة (القومیّة أو الأمّة) عبر علاقة الدولة بالمواطن (الفرد)، متجاوزة أیّ وسیط بینهما، سواء أکانت قرابةً أم انتماءً دینیّاً أو إثنیّاً؛ فالسلطة المطلقة للملک، ثمّ للدولة على المواطنین.

من هنا، ارتبط مفهوم المواطنة بتطوّر اللیبرالیّة فی إطار الدولة القومیّة[3] التی جعلت المواطن الفرد محور العملیّة القانونیّة بمجرّد کونه فرداً حرّاً یخضع لموجبات القانون فقط، متساویاً مع غیره من الأفراد، مهما کان انتماؤه الدینیّ أو الطائفیّ أو العرقیّ، فالمساواة فی المواطنة تشکّل الإنجاز الذی تقدّمه الدولة الحدیثة، بوصفه رافعة إیدیولوجیّة لها، فی مقابل الدولة ما قبل الحدیثة.

وعلى الرغم من أنّ الجدل الفکریّ الغربیّ-الغربیّ یتناول دور الدین فی ذلک التطوّر التاریخیّ، بین موقف متحامل على المؤسّسة الدینیّة وناقدٍ للدین ولدوره؛ وفقاً للسیاق الفرنسیّ السلبیّ، وموقفٍ غیر قاطع مع التجربة الدینیّة؛ بل یقیّم دور الدین إیجاباً، خصوصاً فی السیاق الإنکلوسکسونیّ[4] . ومن الواضح أنّ تعدّد مسارات التطوّر التاریخیّ للمجتمعات الغربیّة یسمح لنا بالإشارة إلى أنّ بعض هذه التجارب اتّکأ على الدین؛ من أجل تطویر المفاهیم الحدیثة، وکذلک لتطویر المؤسّسات الدستوریّة لدولة المواطنة الغربیّة. وإذا کانت التجربة البروتستانتیّة قد استحوذت على أبحاث عالم الاجتماع الألمانیّ ماکس فیبر[5]؛ فإنّ التجربة الإنکلیزیّة للثورة اعتمدت على إدخال العنصر الدینیّ؛ لتبریر الصلاحیّات المعطاة للمجلس النیابیّ بمواجهة سلطة الملک؛ باعتبار أنّ المجلس المنتخب یمثّل رضى الله من خلال إرادة الناس[6].

أمّا فی السیاق التاریخیّ الإسلامیّ، فقد کان نظام المِلل العثمانیّ آخر ابتکارات الفقه السیاسیّ للسلطنات الحاکمة باسم الإسلام، وقد عالج مسألة المواطنة خارج إطار المساواة الفردیّة؛ بل فی إطار الاعتراف بالجماعات الدینیّة -بوصفها طوائفَ ومِلل- والتعایش معها، والقبول بها جماعاتٍ، لا فی إطار المساواة بین الأفراد[7].

وتشیر بعض الدراسات الحدیثة إلى مسألة مهمّة؛ وهی تراجع مستوى الحقوق المدنیّة والسیاسیّة -للجماعات وللأفراد، وبشکل خاصّ لغیر المسلمین- منذ نشوء دولة المُلک العضوض؛ کما سمّاها المؤرّخون المسلمون، على ید معاویة بن أبی سفیان، ثمّ خلفائه الأمویّین والعبّاسیّین. وازداد الأمر سوءاً مع تبلور الفقه السلطانیّ والأدب السلطانیّ الذی برّر السلطة الغاشمة وانتهاکاتها الفظیعة للحقوق الإنسانیّة[8]

وما أُخِذَ على الحرکات الإسلامیّة والفکر الإسلامیّ الحدیث؛ هو جمودها عند فکرة الخلافة ومستلزماتها القانونیّة والفقهیّة[9] (کمفهوم أهل الذمّة)، وقصورها عن مواجهة تحدّی المواطنة؛ فهل یمکن للفکر الإسلامیّ أن ینتج مفهوماً للمواطنة یسمح ببناء دولة قانون، لا تمیّز بین المواطنین على أساس الجنس أو النوع أو الانتماء الدینیّ والطائفی والعرقی؟ لقد کان التحدّی الأبرز هو المساواة فی المواطنة بین مختلف الفئات. فما هو دور المواطنین غیر المسلمین فی دولة إسلامیّة؟ هل هم متساوون فی المواطنة أم إنّهم رعایا أقلّ درجة من النواحی السیاسیّة والدینیّة والاجتماعیّة والحرّیّات الفردیّة والعامّة؟

کان نظام أهل الذمّة والملل العثمانیّ یعود إلى فترة ما قبل نشوء الدولة الحدیثة؛ وهو یعود فی أصوله إلى التطوّر التاریخیّ لمسألة أهل الکتاب فی الدولة الإسلامیّة السلطانیّة، ویُعتبر متخلّفاً عن مبدإ المساواة القانونیّة للفرد الحرّ مع بقیّة الأفراد، أمام الدولة والقانون.

ثانیاً: الظروف الفکریّة والسیاسیّة المحیطة بتجربة الإمام الخمینی (قده):

تحتاج معالجة هذه النقطة بالتحدید إلى إضاءة أوسع على الفکر السیاسیّ للإمام (قده) ومواقفه من التنوّع الفکریّ والدینیّ فی بلده.

وسأحاول أن أنتقل إلى صلب القضیّة المطروحة من خلال مجموعة من النقاط التمهیدیّة، هی: فکرة الولایة (ولایة الفقیه)، دور الشعب فی إقامة السلطة، التراث النضالیّ للأمّة الإیرانیّة، وعلاقة الدین بالثورة منذ عام 1909م.

تبدو ثقة الإمام (قده) بالشعب عالیة جدّاً من خلال الخطب واللقاءات العدیدة التی أجراها، حیث یُظهر الإمام (قده) احتراماً لرأی الشعب وتقدیراً لتضحیاته وإنجازاته، کما یُقدّم رؤیته للنظام السیاسیّ والاقتصادیّ، باعتباره خادماً للشعب، وبشکل خاصّ الفئات الأکثر فقراً.

ولم تنحصر هذه العلاقة الممیّزة فی الجانب العاطفیّ والشعوریّ فحسب؛ بل کان لها دلالاتها الفکریّة والسیاسیّة، خصوصاً فی فترة تصاعد الثورة على نظام الشاه، والانتقال إلى الجمهوریّة الجدیدة.

وأبرز إشارة الى تلک العلاقة والثقة: هی مخاطبة الإمام (قده) للشعب فی القضایا المصیریّة، ومنها العودة إلیه فی مجال حسم القضایا الکبرى عبر آلیّة الاستفتاء الشعبیّ، وبذلک یکون الإمام (قده) قد کرّس مشارکة الشعب فی حسم الموضوعات الحسّاسة، وفی تحمّل المسؤولیّة عن خیاراته التی یتّخذها.

هنا تدخل إشکالیّة هامّة؛ إذ کیف یمکن لإمام فقیه کتب فی الحکومة الإسلامیّة قبل نحو عقدین من انتصار الثورة، وتحدّث عن محوریّة الفقیه فی النظام السیاسیّ الذی یریده، أن یأتی بعد ذلک لاستشارة الشعب؟ فی حین أنّ منطق الأمور هو العودة إلى صاحب السلطة، وهو الفقیه الجامع للشرائط، کما قد ذکر فی أبحاثه فی ولایة الفقیه فی ستینات القرن الماضی، علماً أنّ الرضى الشعبیّ محقّق من خلال تکریسه قائداً للشعب والثورة المنتصرة.

إنّ اعتماد الإمام (قده) لمبدإ الاستفتاء الشعبیّ، على الطریقة الغربیّة، وفی أبرز تطبیقاته الاستفتاء على شکل النظام، أی على الجمهوریّة الإسلامیّة، وعلى الدستور لاحقاً، ثمّ الانتخابات المتعدّدة التی جرت لمراکز السلطة المتعدّدة، یُظهر محوریّة الشعب فی فکر الإمام الخمینیّ (قده)، بعیداً عن المناظرات السجالیّة فی مرکز مشروعیّة السلطة، وهل هو بید الفقیه فقط أم بیدی الفقیه والشعب معاً؟

لا تتعلّق المسألة بنصوص کلامیّة وحجاجیّة؛ بل بممارسة السلطة عبر الشعب، وهو أمر برأیی لا یتناقض مع صلاحیّات الفقیه الواسعة والضامنة لمسار التجربة السیاسیّة للجمهوریّة الإسلامیّة.

إنّ تسمیة الدولة بالجمهوریّة هو اعتراف رمزیّ بالغ الدلالة بدور الجمهوریّة فی اختیار المؤسّسات. وإعطاؤها الشرعیّة الشعبیّة والإسلامیّة هو -أیضاً- الجزء الآخر الذی یعنی الشرعیة الدینیّة ومحوریّتها.

من هذا المنطلق، کان فکر الإمام (قده) ذا جانب عملیّ یستجیب للضرورات الملحّة للأمّة، وبقدر حاجة المجتمع، ویقوم بملء الفراغات وتقدیم الرؤى التی تسدّ حاجة المجتمع الراهنة من داخل المنظومة الإسلامیّة.

لقد رکّز الإمام (قده) على دور الفقیه فی السلطة وفی الشأن العامّ خلال فترة من رکود النشاط العامّ لإسقاط الشاه، وفی ظروف کانت تنحو إلى المهادنة، ومع سریان تیارات عدیدة داخل الحوزة العلمیّة تضغط باتّجاه الانزواء عن الممارسة السیاسیّة والتدخّل فی الشأن العامّ؛ لذلک کانت رؤیة الحکومة الإسلامیّة استجابة لحاجة فکریّة وفقهیّة واجتماعیّة تعید الاعتبار لدور علماء الدین فی حسم موقفهم الوطنی العامّ ضدّ الأنظمة الطاغوتیّة، وتعید الفاعلیّة إلى الحوزة العلمیّة وفئة رجال الدین، باعتبارهم منحازین إلى جانب المستضعفین ضدّ المستکبرین؛ ولأنّهم یملکون حلاً وبدیلاً فعلیّاً ولیس شعاراتیّاً عن النظام البائد وعن الأنظمة الأخرى المقترحة من خارج المنظومة الإسلامیّة.

لقد عالج الإمام (قده) مرض القعود والجمود فی الثقافة الدینیّة لصالح تثویر القطاع برمّته -مؤسّسات وأفراد- لتحمّل مسؤولیّاتهم، والانخراط فی الحراک العامّ تحت رایة إسلامیّة لدیها مشروع للحیاة والحکم، وهی مبادرة إیجابیّة تدمج الحوزة بالعالم المحیط، وتجعلها قادرة على التجاوب مع متطلّباته؛ بل وقیادته[10].

فالإمام لم یتخلَّ عن نظریّته القائمة على محوریّة الفقیه ومسؤولیّته عندما دعا إلى استفتاء الشعب فی القضایا المصیریّة، وإلى أخذ رأیه عبر صنادیق الاقتراع؛ بل أضاف عاملاً جدیداً إلى هذه النظریّة، ینمّ فیما ینمّ عن ثقته بخیارات الشعب، أی قناعته الراسخة بأنّ الشعب سیختار النظام الجمهوریّ الإسلامیّ، ولکنّ لذلک أبعاداً أخرى ودلالات مختلفة، منها أنّ الفقیه الذی ألزم الفقهاء بمسؤولیّاتهم تجاه الشعب والأمّة والدین -من خلال ضرورة تصدّیهم للمسؤولیّة السیاسیّة عبر نظریّة الولایة- هو نفسه الذی حمّل الشعب المسؤولیّة فی اختیار النظام الإسلامیّ، وما سینتج عن ذلک من تبعات کبرى ومهام جسام.

لقد تحدّث الإمام (قده) عن ذلک بوضوح فی خطابه الهامّ والتاریخیّ الذی ألقاه عشیّة الاستفتاء على الجمهوریّة الإسلامیّة، والذی دعا فیه إلى المشارکة الفعّالة والتصویت بـ "نعم" للجمهوریّة الإسلامیّة، على الرغم من أنّه أورد عبارة ذات مغزى فی الخطاب نفسه؛ إذ قال إنّه مع قناعته بعدم الحاجة إلى هذا الاستفتاء، فقد دعا إلى إجرائه، ما یطرح إشکالیّة کبرى هنا! فإذا کان الشعب قد اختار عملیّاً النظام الإسلامیّ، فما الداعی إلى الاستفتاء الشکلیّ (عبر التصویت) على هذا النظام؟

یبدو أنّ قبول الإمام (قده) بإجراء الاستفتاء أمر بالغ الدلالة على سلوکه السیاسیّ الذی –على الرغم من صلاحیّته الواسعة فی المنظور الفقهیّ بما لا یحتاج معه إلى العودة إلى الشعب فی إقرار شکل النظام- یعتمد على اللجوء إلى آلیّة دستوریّة معاصرة لإبراز رأی الشعب فی هذه القضیّة.

وفی سیاق ما جرى، یمکن الاستنتاج أنّ الإمام (قده) أقرّ عملیّاً بمشروعیّة رأی الشعب فی مثل هذه القضایا، ولو لم یطرح الأمر على شکل رأیٍ فقهیّ أو فکریّ یبرّر هذا الإجراء، أو یعطیه أدلّته النظریّة الکافیة.

إنّ مجرد قبول الإمام (قده) لهذا الاستفتاء وما بعده، یُعطی الآلیّة الدستوریّة للاستفتاء شرعیّة خاصّة ومحوریّة، مهما کان رأیه الشخصیّ بعدم الحاجة إلیه أصلاً.

ویمکن القول إنّ ثمّة مستوىً من المعالجة یظهر اختلافاً (إبستمولوجیّاً) بین اللجوء إلى الاستفتاء لأخذ الشرعیّة الشعبیّة من جهة، والاقتصار على رأی الفقیه فی الموضوع من جهة ثانیة؛ ذلک أنّ مجرّد قبول الإمام (قده) باللجوء إلى استفتاء الشعب فی شکل النظام (وغیره) یمثّل اعتماداً لهذه المرجعیّة الدستوریّة (أی الاستفتاء)، وکذلک التزاماً سیاسیّاً وأخلاقیّاً بها، فالإمام الفقیه العارف العادل الزاهد الشجاع الملمّ بالعصر وأحواله لم یکن یناور حینها، ولم یکن بحاجة إلى المناورة، فالقیادة له محسومة وأمره مطاع والشعب رهن نداء صغیر منه لکی یتحرّک لتحقیق ما یرید، ولو کلّفه ذلک الشهادة!

لقد ألزم الإمام (قده) نفسه، وألزم مساعدیه، وألزم أعداءه بقرار الشعب، وقدّم التزاماً مسبقاً بمجرّد القبول بآلیّة الاستفتاء، أی التشریع العملیّ لهذه الآلّیة واحتکامه لنتائجها. وهو سلوک سیاسیّ فقهیّ وفکریّ واجتماعیّ، عبّر فیه الإمام (قده) عن اجتهاد وجرأة کبیرین تکرّسان حقّ الشعب فی اختیار شکل نظامه السیاسیّ، وطبیعة المؤسّسات التی تنوب عنه وتدیر مصالحه. وهذا الاجتهاد یشکّل سدّاً لحاجة اجتماعیّة فی لحظة سیاسیّة خطیرة ملأها قائد کبیر کبر الإمام المقدّس (قده).

إنّ الانتقال من الرأی الفقهیّ أو الفلسفیّ إلى الحیّز الدستوریّ بآلیّاته المجسّدة فی مؤسّسات وقوانین وإجراءات عملیّة هو انتقال من مستوى تفکیریّ-معرفیّ إلى مستوى معرفیّ مختلف، وبالتالی، فإنّ نقل النظریّة من مستوى إلى آخر یتطلّب تسییل النظریّة الفقهیّة أو الفلسفیّة فی قوالب دستوریّة وإجرائیّة لا تعکس بالضرورة الدقّة النظریّة أو المعطى الفکریّ نفسه، وبالطریقة الحرفیّة التی کانت تمثّله فی المستوى السابق، قبل الانتقال إلى حقل معرفیّ جدید.

لقد استفاد الإمام (قده) من التجربة النضالیّة للشعب الإیرانیّ على مدى سنوات؛ وأبرزها التجربة الممتدّة إلى العقد الأوّل من القرن العشرین، حین أوصلت الثورة الدستوریّة الثوّار إلى السلطة، لکنّهم لم یستطیعوا بناء نظام والحفاظ علیه، فی ما یعزو بعض الباحثین سببه إلى انزواء دور رجال الدین الثوریّین، ومغادرتهم الساحة، وتسلیم الأمور إلى القوى المسیطرة على البرلمان حینها؛ ما جعل الإمام (قده) یتنبّه إلى أنّ حضور رجال الدین والمتدیّنین یشکّل أحد الضمانات التی تمنع انهیار التجربة الجدیدة.

کما إنّ التراث الإیرانیّ الثوریّ الدستوریّ لیس بعیداً عن المنطق الدستوریّ العامّ الذی جاء به الإمام (قده)؛ بل یتقاطع معه، وهذه الاستمراریّة النضالیّة تمثّل إحدى ممیّزات هذا الشعب.

ومن هذا التراث ما کتبه عام 1906م المرجع المیرزا محمد حسین النائینی (قده) فی خضم الصراع فی المشروطة والمطلقة -أی بتعبیرنا العربی: "الدستوریّة والدکتاتوریّة"- وهو الکتاب الذی أعاد أحد رموز الثورة آیة الله محمود طالقانی نشره عام 1955م فی إطار تحریضه الثوریّ على النظام الشاهنشاهیّ.

لقد أبرز النائینی (قده) دور الأمّة والشعب بشکل موسّع فی أطروحته المسمّاة "تنبیه الأمّة وتنزیه الملّة" إلى حدّ أنّه یعتبر الدولة ملکاً للشعب برمّته، وبما أنّ غیر المسلمین هم مواطنون من أبناء هذا الشعب، فهم یملکون فی الدولة ما یملک المسلمون. وهو بهذا الاعتبار یُقدّم حلاً إسلامیّاً مشابهاً لما قدّمه الإمام (قده) فی النتیجة، وهو تسویغ إشراک غیر المسلمین فی السلطة والدولة، وإنْ کان لدى الإمام (قده) رؤیة خاصّة وموسّعة لدور الفقیه، کما أسلفنا.

 

ثالثاً: المواطنة والموقف من غیر المسلمین عند الإمام الخمینیّ (قده):

قدّم الإمام (قده) رؤیته فی العلاقة مع أتباع الأدیان الأخرى، بوصفهم جزءاً من الأدیان التوحیدیّة. وفی ما یخصّ إیران، فإنّ أطروحة الإمام (قده) تجاههم قدّمت المبادئ العامّة، بعیداً عن عقدتین غالباً ما شابتا کتابات الباحثین المسلمین تجاه الموضوع.

-       العقدة الأولى: هی الانطلاق من الأنموذج الغربیّ للمواطنة داخل الدولة القومیّة، ومحاولة إسقاط هذا المفهوم بحرفیّته على الأوضاع فی العالم الإسلامیّ؛ حیث إنّ خلفیّة الفکر والنصّ القانونیّ إنّما تنبع من الموروث الغربیّ لإنشاء علاقة مواطنة منبهرة بالأنموذج الغربیّ، دون اعتبار لتاریخیّة المسألة، وارتباطاتها الثقافیّة والاجتماعیّة بالبلدان المطبَّقة فیها، أو المطلوب إسقاطها علیها.

-       العقدة الثانیة: وتتمثّل عند کثیر من الإسلامیّین بالاستغراق فی فقه أهل الذمّة السلطانیّ؛ إذ اختار الإمام (قده) الابتعاد عن الأنموذج التقلیدیّ فی الفقه الإسلامیّ المنتج فی التجربة السلطانیّة الغاشمة، وخصوصاً لجهة تفسیر مفهوم أهل الذمّة وفقاً لآراء فقهاء السلطة. لقد قدّم وعّاظ السلاطین على مرّ التجربة السلطانیّة -الأمویّة، والعبّاسیّة، والمملوکیّة، والعثمانیّة، وغیرها- أدباً فقهیّاً وسیاسیّاً یخدم توجّهات السلطة الحاکمة باسم الإسلام تجاه المعارضین المسلمین من جهة، أو أتباع أهل الکتاب من جهة أخرى؛ بما تضمّن ذلک من إجحاف وسحب للحقوق والمساواة التی أمّنتها مبادئ الإسلام؛ وفقاً للتجربتین النبویّة (ص) والعلویّة (ع).

فلم یستعمل الإمام (قده) المفردات الکثیرة الشائعة فی آداب هؤلاء (فقهاء السلاطین)، ولا فی الأدب السیاسیّ للحرکات الإسلامیّة التی نشأت على أثر الصدام مع الغرب بدءاً من العام 1798م (غزو نابلیون للقاهرة)، أو إلغاء السلطنة والخلافة العثمانیّة (1924م) وما حمله الجدل الفقهیّ الفکریّ من تمجید لمفهوم الذمّة والذمّیّین وأهل الذمّة والمستأمنین، وهو الأدب الذی تزخر به کتابات إسلامیّین مصریّین ومشارقة وأفارقة، کانوا فی البیئة الفکریّة للحرکات الإسلامیّة المختلفة؛ سواء الإخوان المسلمین، أو حزب التحریر، أو نتاج المؤسّسات التقلیدیّة فی العالم الإسلامیّ، وهی کتب ودراسات تُعدّ بالمئات أو حتى بالآلاف.

لقد قدّم الإمام الخمینیّ (قده) رؤیته مباشرة وبوضوح ومن دون تعقیدات، فی إطار تلبیة حاجة الأمّة إلى حسم مسألة المواطنة لغیر المسلمین ودورهم فی النظام الإسلامیّ الذی یقترحه للحکم فی إیران. وبمقدار ما کانت المسألة ملحّة، کان الحسم واضحاً من داخل الفکر الإسلامیّ والمبدإ الدینیّ والقرآنیّ، متجاوزاً الجدل التاریخیّ والفقهیّ فی المسألة، حیث قدَّم رأیاً اجتهادیّاً معاصراً، وبلغة تصیب قلب المقصد المطلوب.

وإذا کان الشاهد التاریخیّ حاضراً هنا فی کلام مفجّر الثورة الإسلامیّة، فهو شاهد یرجع إلى الفترة الأصل -النبویّة والعلویّة- المعبّرة بصدق عن عدالة الإسلام، بخلاف التراث السلطانیّ السلطویّ. وفی هذا الشاهد حضر الإمام علی (ع) حاکماً عادلاً لم یرضَ الذلّ والمهانة لامرأة کتابیّة هاجمها أتباع معاویة[11] فی منطقة الأنبار العراقیّة حینها، وسرقوا حلیّها فی إطار اعتداءاتهم على مواطنی الدولة التی حکمها أمیر المؤمنین (ع)، والشاهد الآخر هو قبول الإمام علی (ع) للتقاضی بمساواة تامّة أمام دعوى رفعها علیه یهودی مطالباً بدرع له، فکان مثال العدل والمساواة.

[1] انظر بهذا الخصوص: ماکیفر، روبرت: تکوین الدولة، ترجمة: حسن صعب، بیروت، دار العلم للملایین، 1966م، ص218 وما بعدها.

[2] لمراجعة مختصرة لنظریّات العقد الاجتماعیّ، انظر: رایلی، کیفین: الغرب والعالم، ترجمة: عبد الوهاب المسیری، سلسلة عالم المعرفة الکویتیّة رقم97، ص260 وما بعدها.

[3] عالج هذه النقطة: الکواری، علی خلیفة؛ وآخرون: المواطنة والدیمقراطیّة فی البلدان العربیّة، ط2، بیروت، مرکز دراسات الوحدة العربیّة، 2004م، ص30 وما بعدها.

[4] یمکن متابعة جزء من هذا الجدل فی: قرم، جورج: المسألة الدینیّة فی القرن الواحد والعشرین، بیروت، دار الفارابی، 2007م.

[5] فیبر، ماکس: الأخلاق البروتستانتیّة وروح الرأسمالیّة، ترجمة: محمد علی مقلّد، مراجعة: جورج أبی صالح، بیروت، مرکز الإنماء القومیّ، لا ت.

[6] یشرح برتران بادی ملابسات تجربة التحرّکات الشعبیّة والثورة فی إنکلترا بین القرنین الثانی عشر والسابع عشر المیلادیّین، حیث ینقل عن هنری بارکر أنّ موضع شریعة الله هو فی "قلوب الناس"، ویستند إلى رأی المتزمّتین فی توطید شرعیّة المجلس النیابیّ، وشرعیّة التمثیل (على حساب الملک وسلطاته المطلقة). أمّا جون جودوین، فاعتبر الحکومة بمنزلة مؤسّسة إلهیّة وسلطتها قائمة على الحوار والتوافق والعقول الفردیّة للبرلمانیّین. ویندفع النقاش المؤسّس للدیمقراطیّة الإنکلیزیّة إلى التوصّل إلى علاقة إیجابیّة بین الحکم بصیغة إلهیّة-دینیّة والدیمقراطیّة البرلمانیّة؛ أی إلى فهم الشرعیّة الشعبیّة فی إطار دینیّ؛ إذ لا یمکن أن تبنى الحقیقة الإلهیّة إلا على قاعدة الإرادات الفردیّة، ولا تکون الحکومة شرعیّة إلا إذا کانت مسؤولة أمام المجتمع المدنیّ. انظر: بادی، برتران: الدولتان/الدولة والمجتمع فی الغرب وفی دار الإسلام، ترجمة: نخلة فریفر، بیروت، المرکز الثقافیّ العربیّ، 1996م، ص52-60.

[7] یمکن أخذ فکرة عن التراث الفقهیّ والفکریّ الإسلامیّ التقلیدیّ عن نظام أهل الذمّة فی: زیدان، عبد الکریم: أحکام الذمّیّین والمستأمنین فی دار الإسلام، بغداد، دار القدس؛ بیروت، مؤسّسة الرسالة، 1981م. ولأخذ فکرة عن تطوّر وضع أهل الذمّة فی الفترة العثمانیّة، یمکن العودة إلى کتاب رکّز على وضعهم فی مصر فی: میلاد، سلوى علی: وثائق أهل الذمّة فى العصر العثمانی وأهمّیّتها التاریخیّة، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزیع، 1983م. وهناک کتاب تقلیدیّ فی الفقه السنیّ له تأثیر على کثیر من الحرکات الإسلامیّة، هو: أحکام أهل الذمّة لابن القیّم الجوزیّة.

[8] تعود أغلب الحرکات السلفیّة التکفیریّة إلى کتب السیاسة الشرعیّة للثلاثیّ: ابن تیمیّة، الماوردی، وأبی یعلا الفرا، وخصوصاً کتابی الأخیرین اللذین یحملان العنوان نفسه: الأحکام السلطانیّة والولایات الدینیّة. ویمکن مراجعة معالجة جدّیّة فی الموضوع فی: یاسین، عبد الجواد: السلطة فی الإسلام/ العقل السلفیّ الفقهیّ بین النصّ والواقع، بیروت، المرکز الثقافیّ العربیّ، 2008م.

[9] انظر -على سبیل المثال- انتقادات الشیخ محمد مهدی شمس الدین لهذه الحرکات الإسلامیّة فی: شمس الدین، محمد مهدی: نظام الحکم والإدارة فی الإسلام، ط2، قم المقدّسة، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1991م، ص414.

ویمکن ملاحظة تطوّرات هامّة حدثت فی الخطاب الإسلامیّ التجدیدیّ فی دور غیر المسلمین فی الحکم من وجهة نظر إسلامیّة سنّیّة من خلال کتابات مفکّرین؛ أمثال: الشیخ محمد الغزالی (1917 – 1996م)، وحسن الترابی، والشیخ یوسف القرضاوی، والشیخ راشد الغنّوشی (معاصرون)، سمح فیها تطوّر رؤیة هؤلاء إلى الدولة؛ بوصفها مؤسّسة منفصلة عن شخص الحاکم/ الخلیفة أو الولی بتجاوز بعض مسلّمات الخطاب التقلیدیّ فی أهل الذمّة وأحکامهم (وکذلک دور المرأة السیاسیّ)، ولکنّها لم تتبلور بشکل فعلیّ؛ إلا بدءاً من أواسط الثمانینات وبدایات التسعینات من القرن العشرین، ولم تؤدّی تجربة وصول بعض هؤلاء أو أنصارهم الى الحکم سواءٍ فی السودان أو تونس أو مصر إلى تقدیم أنموذج عملیّ سنّیّ مستقرّ؛ بما یسمح بالحکم على تجربته فی مجال صفوف غیر المسلمین.

[10] بلغ تأثیر الإمام الخمینی (قده) فی هذا المجال حدّاً اعترف معه حتّى المستشرقین بفضله فی نقل المؤسّسة الدینیّة من الشلل السیاسیّ إلى الحیاة الفعلیّة؛ إذ یرى محمد أرکون أنّ الإمام الخمینی، ومن خلال ولایة الفقیه، یحدث انقطاعاً (یقصد بالمعنى المعرفیّ والإبستمولوجیّ) مع النظریّة الشیعیّة التی ترید تعلیق مفاعیل الإمام (ومنها المفاعیل السیاسیّة) طیلة فترة غیاب الإمام؛ لیعید إدخال ممارستها داخل التاریخ؛ أی إعادة وصل المؤسّسة الدینیّة الشیعیّة مع التاریخ والشؤون العامّة، وعدم الاکتفاء بالانکفاء والتنظیر بما جرى فی التاریخ القدیم، بل یشرک الشیعة والحوزة الدینیّة فی صناعة التاریخ المعاصر. انظر: أرکون، محمد: تاریخیّة الفکر العربیّ الإسلامیّ، ترجمة: هاشم صالح، ط2، بیروت، مرکز الانماء القومیّ؛ المرکز الثقافیّ العربیّ، 1996م، ص184.

[11] قد ورد کلام أمیر المؤمنین علی (ع) فی نهج البلاغة فی حادثة اعتداء "سفیان بن عوف" على الأنبار فی عهد حکومة أمیر المؤمنین (ع) طریق امرأتین مسلمة ویهودیّة وسلبهما حلیّهما.

ارسل هذا الخبر الی الاصدقاء