الكاتب: د.حميد أنصاري
تعتبر نهضة عاشوراء وتداعياتها، أكثر الوقائع تاثيراً وديمومةً، حيث كانت مصدراً لايجاد تغيير وتطور أساسي في التاريخ الإسلامي. لم تقتصر آثار ونتائج هذه النهضة على زمن وقوعها والسنوات القريبة منها. إن إراقة الدم الطاهر لسبط النبي(ص) الإمام الحسين(ع) وأصحابه المنتجبين في يوم العاشر من محرم سنة 61 للهجرة في مشهد من أكثر المشاهد المؤلمة على مر التاريخ الإنساني، ولَّد تدفقاً قوياً في مسار تغيير وتطور تاريخ العالم الإسلامي، بحيث أن الآثار العميقة والواسعة والدائمة والباعثة على التغيير لا تزال قائمة منذ ذلك الحين إلى وقتنا هذا – أي أكثر من 13 قرناً-. ولم يستطع مرور الوقت أن يلقي ظلال النسيان على تداعيات تلك الواقعة فحسب بل أن تأثيرها زاد على نطاق أوسع بكثير مما سبق، على حياة قسم مهم وحاسم من الأمة الإسلامية.
لقد قام الإمام الحسين(ع) بنهضته وتضحياته ضد نظام يزيد الظالم –الذي تربع على كرسي الخلافة الإسلامية- حينما قام مدعي خلافة الرسول الأكرم(ص) من بني أمية بالعودة إلى عصر الجاهلية والأشراف وهدم القيم الإسلامية وتكذيب أساس الوحي والرسالة. وتحريف وتغيير القيم الأساسية للإسلام وتعريض دين الله إلى الزوال. لقد كانت أولى وأهم منجزات نهضة الإمام الحسين – عليه السلام – الفصل بين الحق والباطل وإعادة رسم مظهر الإسلام المحمدي الأصيل وفضح حقيقة المدعيّن والمطالبين بالخلافة. وهكذا تم ضمان الإسلام الصحيح والسليم بدماء سيد الشهداء، وأصبحت نهضة عاشوراء هي الفارق بين الحق والباطل وحد تشخيص حقيقة الإسلام عن ظاهره المزيف. بعد ذلك نشأت موجة من النهضات والانتفاضات لاتباع آل الرسول (ص) تحت شعار "يالثارات الحسين" ضد بدعِ وظلم بني أمية. منها نهضة التوابين في الكوفة ونهضة أهل المدينة وثورة المختار ونهضة اين مغيرة ضد الحجاج ونهضة ابن الأشعث وزيد بن علي وأولاده لقد كانت كلها تصب في هذا المجال. خلال هذه المدة كان الإطار الديني والثقافي لوقوف ومقاومة الثوار المسلمين ضد ظلم وجور الخلفاء، يتغذى من قيادة الأئمة المعصومين(ع). أولئك الأئمة ذاتهم الذين كانت قضية تخليد ذكرى عاشوراء وإحياء ثقافة عاشوراء تتصدر أولوياتهم وبرامجهم.
بشكل عام ومن خلال تقييم تاريخي منصف ينبغي القول: أن حفظ الإسلام الصحيح وحفظ القيم الدينية واستمرار النهضات المطالبة بالإصلاح في التاريخ الإسلامي، وكذلك حياة الشيعة الثوريين كل ذلك مرهون بنهضة عاشوراء. بعد واقعة عاشوراء، قام الخلفاء والحكومات الظالمة في البلاد الإسلامية، خوفاًَ من التأثير الواسع لشعارات وأهداف وتداعيات نهضة عاشوراء، قاموا بتجنيد المتاجرين بالدين لتحريف جوانب وأبعاد هذه الواقعة التاريخية. ومنذ أن نجح الاستعمار الحديث في تجزئة البلاد الإسلامية والسيطرة على الحكومات ومصير دول المسلمين، اتسعت بشكل أكبر دائرة التحريفات والبدع وحلت الخرافات محل روح كراهية الظلم ومحاربته وحلت محل الروح، الثورية لنهضة عاشوراء ايضاً. وكانت النتيجة أن ضفعت روح عاشوراء ومكتبها ورسالتها في حياة المسلمين وحل مكانها حفظ الرموز الظاهرية والتجليلية والخالية من الروح واستغلال هذه الملحمة العظيمة لصالح الامة. فمع تطاول وتعدي الأعداء وتحريفات المتاجرين بالدين تحولت النظرة إلى عاشوراء من كونها مكتب قيم ومعنوي وثوري إلى واقعة شخصية وفردية مؤلمة. حيث نزلت قيمتها في القرن الأول للهجرة لتخلو من أي نوعٍ من الرسائل والمنطق والإنجازات وأصبح يتصور على أنه ينبغي البكاء وذرف الدموع على المصائب التي حلت في تلك الواقعة فحسب. واقامة مجالس العزاء تسلية لما حدث فيها وغالباً ما تكون تلك المجالس مهينة كالتي شاعت في عهد رضا خان وولده في ايران.
في مثل هذه الظروف اطلق الابن السليم لعاشوراء أي الإمام الخميني – قدس سره – خلال خطابه الصارخ في عاشوراء سنة 1342 هجري شمسي نهضته العاشورائية أي نهضة الخامس عشر من خرداد. دون شك، أن نهضة الإمام الخميني والثورة الإسلامية لم تكن متأثرة بثقافة عاشوراء ونهضة سيد الشهداء فحسب بل أن هذه النهضة في أساسها وأركانها وأجزائها كلها كانت وليدة لنهضة عاشوراء وتداعياتها. إن التلاحم والارتباط المذكور بين نهضة الإمام الخميني ومكتب عاشوراء جلي في عمل وسلوك ومنطق قائد الثورة وأعمال وشعارات وتطلعات الثورة الإسلامية لدرجة أنه لا حاجة للاستدلال على ذلك. حتى أن نقاط التحول في تاريخ الثورة الإسلامية ظهرت في التلاحم مع محرم وعاشوراء خلال هذه المناسبات.
كانت بداية نهضة الإمام الخميني في عصر عاشوراء سنة 1342 هجري شمسي وتجلت ذروة هذه النهضة في محرم سنة 1357 هجري شمسي. حيث أطلقت الرسالة الحماسية للإمام بمناسبة محرم في ذلك العام نداء "انتصار الدم على السيف" كمنطق للثورة الإسلامية في مواجهتها للعالم الحالي. لقد قصمت المسيرات المليونية في طهران وسائر أرجاء ايران خلال أيام (تاسوعاء وعاشوراء) الحسينية سنة 1357 هجري شمسي ظهر نظام الشاه والبهلوي وامريكا التي تدعمه. ومنذ ذلك الحين أصبح محرم وعاشوراء في كل عامٍ؛ ساحة لتعبئة القوى المؤمنة بالثورة الإسلامية وزيادة روح الشجاعة في نفوس المدافعين عنها. وخلال فترة الـ 8 سنوات من الدفاع المقدس المماثل لنهضة الإمام الحسين، للشعب الايراني، لم يكن محرم وعاشوراء واسم سيد الشهداء المقدس وأصحابه رمزاً للعمليات وأسماء الجيوش والكتائب وانتصارات جيش الإسلام فحسب، بل ترك بصفته، أهم أنموذج ودافعٍ لعامة المحاربين، تأثيره الإعجازي الخارق. لو قمنا خلال تحليل قضايا الحرب المفروضة على ايران بإهمال ثقافة طلب الاستشهاد والإيثار في سبيل الله الذي يعد أول درس في مكتب عاشوراء، وإهمال شعار (انتصار الدم على السيف) الذي يعد لغة ومنطق عاشوراء، وإهمال عشق الحسين(ع) وكربلاء الحسينية، من الاعوام الثمان للمقاومة الخارقة للشعب الايراني ضد المعتدين، لما تبقى شيءٌّ يمكن قوله. هذا لا يقتصر فحسب على مرحلة الدفاع المقدس التي أوجدتها معجزة الاسم المقدس للإمام الحسين(ع) وتأثير نهضة عاشوراء وتداعياتها ، بل وأن انتصار الثورة الإسلامية على النظام المسلح للشاه المخلوع برغم وجود الدعم المقدم له من قبل أقوى الدول في العالم، نشأ بشكل مباشر من النفوذ العميق لمنطق ورسالة عاشوراء في نص الثورة الإسلامية ولدى المدافعين عنها. وبالتأكيد لا يخفى عن المطلعين بالتاريخ الإسلامي وخاصة في عصرنا الحاضر أن النهج الذي لم يسبق له مثيل للشعب الايراني بروح ثقافته العاشورائية ومفاهيمه النهضوية مثل: اعتناق الحرية، وطلب الاستشهاد والنضال والنهضة والمقاومة في سبيل الله والفداء والإيثار في سبيل تحقق الأهداف الإلهية، نتيجة لأفعال وأفكار الإمام الخميني وتوعيته للشعب. وكما أن لروح عاشوراء ورسالته ودروسه حقاً ودوراً كبيراً لا مثيل له في ظهور وانتصار الثورة الإسلامية، فإن للإمام الخميني (قدس سره) أيضاً دوراً وحصة كبيرة في إحياء ثقافة عاشوراء والتخلص من زيف الخرافات والبدع.
المصدر: مجلة حضور، العدد 15