اطلالة الربيع والميلاد

اطلالة الربيع والميلاد

بسم الله الرحمن الرحيم.

    التطرق الى احداث عظيمة، خالدة، لا تزال بصماتها على الساحة الانسانية المترامية، متواجدة، والكتابة عن تفاعل ذلك مع الانسان ومصيره على امتداد التاريخ، وما يترتب عليه، من نتائج او انعكاس عمل ما، هنا وهناك... وهل ان هذا المخلوق من بني ادم، جدير بما اسبغ الله تعالى عليه، من نعم لا تعد ولا تحصى ومنحه موهبة العقل الفريدة، لتمييزه عن سائر الكائنات، وبالنطق الذي حدد مكانته من بينها... هل انه اهل لذلك ؟... لقد تضاربت الاراء والافكار، حول  ماهية هذا الموجود المتعالي، الرفيع وما يضمه في جنانه من تناقض وتضاد، وما وصلت لحد الان، الى شيئ من العلم، تختتم به ابحاث ودراسات طويلة الامد، عفى على اكثرها الزمن واصبحت في خبر كان !... فالفلاسفة على اختلاف مشاربهم، وضعوا ميزان مقاساتهم، لينظروا ما تقوله الفلسفة وما توحي به، وهم الذين خلقوا وصاغوا الفلسفة بما فيها ! فكيف، اذن، يمكن التوصل الى نتيجة وبرهان قاطع، من علم يتارجح بين هذا وذاك ؟ ونظرياتهم تدحض بعضها البعض ! وان ارادوا العمل بها، في مجتمع ما وجندوا كل ما في جعباتهم، وتمددوا مرتخين، فارغي البال، بانتظار البشرى الكبرى والفوز الفريد ! فاذا هم يستيقظون، مرتجفين... على زرعهم الذي اصبح هشيما تذروه الرياح !... وهكذا الاجتماعيون، اصحاب نظريات علم الاجتماع، والسياسيون، اصحاب نظريات علم السياسة... وغيرهم ممن يحملون القابا وعناوين، ما انزل الله جل جلاله بها من سلطان ! ولا سيما صحابة سارتر وداروين وماركس (1)... فهل ان الكون الذي نعيش ونموت فيه، وهو لا يتعدى حفنة من تراب ودلو من ماء، بالنظر لما تحيط به من افلاك وكواكب عملاقة، لو ارادت ابتلاعه، لما استغرق ذلك الا ثوان معدودة !... ف " هل اتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا " _ (2) ؟ ام، ان الروح الالهية دبت في عروقه وشرايينه وانتشلته من مستنقع حضيض اللاشيئ والعدمية، ورفعته الى اعلى عليين، كما جاء " عن ابي خالد القماط، عن ابي عبد الله (الصادق) عليه السلام... ان الله خلقنا من اعلى عليين... " _ (3)... فلماذا يرى المتخلفون عن ذلك، ان ما يسمى بالطبيعة، هي التي اوجدت كل شيئ، وان دبيب الكائنات وسبحها وحركتها، صدفة قد تخفق في اعمالها ولاغير ؟!... وذهب بعضهم الى التشكيك حتى بنفسه !. قال شاعرهم :

رحت اسال من عقلي

و هل يدرك عقلي

ا لاجل الكون اسعى

ام الكون لاجلي

          لست ادري! (4).

فهو قد احتز عقله بمدية الريبة والتيه واضاع نفسه بنفسه !، فلم يسع الى معرفة او صياغة او تنزيه روحه وتطهيرها من الدنس ! تاسيا بعظام الانسانية ومصابيحها الوهاجة، الساطعة، كاهل البيت (ع) وقمتهم النبي الاكرم (ص)، الذين خلقهم الله تعالى من اعلى عليين، نماذج للانسان الذي امر الله عز وجل الملائكة بالسجود له، نافخا فيه من روحه الملكوتية، بقوله عز من قائل: " فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " _ (5)... فما دوران الارض وتعاقب الايام والاشهر والسنين، والفصول الاربعة التي تتوالى، واحدا بعد اخر، وما يتبع ذلك من تحول وتجديد في الطبيعة، الا براهين تدل بنفسها على نفسها، معلنة وجود خالق احد، صمد، لم يلد ولم يولد... وما الربيع الذي نحن على اعتابه، وتبختره ودلاله، بجلابيبه الخضراء الزاهية، الا غيض من فيض في لوحة الوجود والكائنات. ان هذا الطاووس، المتنوع الالوان، الربيع، اوشك على حط رحاله والقاء عصاه، بعد مسار مضن ومصاعب جمة، عارضا ريشه بزهو وخيلاء لیغطي كافة انحاء المعمورة، خاصة، وكره العريق، ايران، ليحتفي به الايرانيون، الذين يطلقون عليه (نوروز)، اي : اليوم الجديد.، فقد روي : عن معلى بن خنيس، قال : دخلت على الصادق جعفر بن محمد (ع) يوم النيروز، فقال : اتعرف هذا اليوم ؟ قلت : جعلت فداك، هذا يوم تعظمه العجم وتتهادى فيه. فقال ابو عبد الله الصادق (ع): والبيت العتيق الذي بمكة، ما هذا الا لامر قديم، افسره لك حتى تفهمه... (6). فمنذ الازل، اولعوا بمقدمه، ونثروا عليه ما استطاعوا من حب وهيام، وقالوا فيه الكثير والكثير، مما ينبع من صميم افئدتهم ويدل على غرامهم الملتهب. فقد اطلقوا اسمه على ابنائهم وامكنتهم، وصاغوا له، بقلوبهم حلية بعد اخرى، واقاموا له مراسيم، يؤدونها وموائد سموها( هفت سين)، اي : السبعة سينات، وهي اشياء اول حروفها (السين)، مثل : سيب، التفاح،  سنبل، نوع من الورود، سركه، الخل، و....، وتغنى به الشعراء من كل حدب وصوب. قال المقريزي : ما رايت قط اجمل من ايام النوروز والمهرجان، من الايام التي كانوا يسخون فيها باموالهم... ولا يبقى صغير ولا كبير الا خرج الى البركة متنزها. (7). وهذا البحتري، يهنئ الخليفة العباسي المعتضد:

ان يوم النيروز عاد الى العهد

الذي كان يسنه اردشير

انت حولته الى الحالة الاولى

و قد كان حائرا يستدير.(8). وقال ايضا :

اتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا

من الحسن حتى كاد ان يتكلما. (9). واهتمت الخلافة الاموية، اقتصاديا، بعيد النورز او النيروز، بهدف جباية الخراج فقط !. قال جرير في ذلك:

عجبت لفخر التغلبي وتغلب

تؤدي جزى النيروز خضعا رقابها. (10). وانشدابو نواس، الحسن بن هانئ:

يباركنا النوروز في غلس الدجى

بنور على الاغصان كالانجم الزهر

يلوح كاعلام المطارف وشيه من

الصفر، فوق البيض والخضر والحمر. (11). وجاء الامام الخميني( قدس سره) ، في العصر الراهن، مؤكدا على ما ذهب اليه الاقدمون، من ان (نوروز)، ليس فقط عيد الطبيعة والربيع، بل هو " سنة الاخوة الايمانية ووحدة الكلمة، وسنة العودة الى ما كان في اوائل النهضة، كما هو مشهود بحمد الله، وان تزداد هذه الوحدة وتحكم، وان يكون جميع ابناء هذه البلاد، في صدد خدمة الوطن وخدمة الاسلام والوطن الاسلامي، لتكون هذه السنة الجديدة كلها اعياد نيروز... " (12)...وفي هذا الشهر، شهر شعبان المعظم، الذي دخلنا فيه، تقارن (نوروز) باعياد غراء... میلاد سيد الشهداء (ع) في الثالث، وابي الفضل العباس (ع) في الرابع، وزين العابدين (ع) في الخامس، وعلي الاكبر (ع) في الحادي عشر، واخر حجة الله تعالى على خلقه، الامام المهدي المنتظر (عج) في الخامس عشر من هذا الشهر الكريم، شهر رسول الله (ص). فمثل ذلك، لا يعاد ثانية على امتداد التاريخ، لان الله تعالى لا يمن على البشر، بنسخة اخرى لابي عبد الله الحسين (ع)... والدهر على ما احتواه خلال الوجود، يبخل بمثل ذلك... فان استطاع الانسان، الانتفاع والتمسك به، فقد فاز فوزا عظيما، وان فاته الامر، فلا يحصد الا الخيبة والندم، كما فعل التوابون الكوفيون، بعد مصرع الحسين (ع) _ (13)... والحديث ذو شجون وان طال وتفرع، والتطرق الى شخصية عظيمة اخرى، كابي الفضل العباس (ع) ومواقفه المشرفة في واقعة الطف، لا يضيف شيئا مذكورا... فما نحن والشمس المشرقة في رابعة النهار ؟ وما نريد ان نقول ؟... فقد سبقتنا الى ذلك، اقوال وكلمات مضيئة، وان كانت دليلا وبرهانا على ما تمتع به (ع)، الا انها لم تبلغ الحد الادنى، ولم تصل الى ما ارادت !... هذا ابو الفرج الاصفهاني، الكاتب والمفكر الاسلامي الكبير، قال يصفه : كان العباس( ع) رجلا وسيما جميلا، يركب الفرس المطهم ورجلاه تخطان في الارض، وكان يقال له قمر بني هاشم وكان يحمل لواء الحسين (ع). _ (14) ِ... فقد اظهره شجاعا، مقداما، لان حامل اللواء في معترك الوغى، لا يكون الا الرجل الصنديد، المتمرس. وقال فيه اخر : لقد ابدى ابو الفضل يوم الطف، من الصمود الهائل والارادة الصلبة ما يفوق الوصف، فكان برباطة جاشه وقوة عزيمته جيشا لا يقهر. _ (15).... لقد كان مثلا اعلى في البطولة والعظمة الروحية والايمان العميق بالله، والاخلاص والتفاني والنصيحة والانسانية، السامية الرفيعة، التي تكاد ترقى الى مرتبة الملائكة. _  (16).... و نهتدي الى ساحة الامام السجاد (ع)، لنغترف من معينه، ونتعرف على سموه ورفعته، خلال كلمات واحرف من نور، لا تزال مشعة في مسار الحق والحقيقة، للسالكين. قال (ع) : سادة الناس في الدنيا الاسخياء، وسادة الناس في الاخرة الاتقياء._ (17). و: ان شتمك رجل عن يمينك، ثم تحول الى يسارك، فاعتذر اليك فاقبل منه. _ (18). و: من لم يكن عقله اكمل ما فيه، كان هلاكه من ايسر ما فيه. _ (19) ِ... فما نزيد او ننقص، في ذلك، ونحن اقرب الى النقصان !... واما فارس الشباب واقرب الناس الى الرسول الاعظم (ص) شبها، علي الاكبر (ع)، ف " كنيته ابو الحسن، ولقبه الاكبر، لانه الاكبر على الاصح، والسقا، لانه( ع) سقى عيالات ابيه، وكان عالي الشان، فارس الفرسان، ومن المودة لابيه في اعلى مكان " _ (20).... فقد " كان في منتهى الشرف والفضيلة، وكبر النفس، ولقد جمع العلم والحلم والتقى والورع، والهيبة والنباهة والسخاء والشجاعة، الى غير ذلك من الصفات الحميدة والنعوت الكريمة. " _ (21).... واننا منتظرون... محبون، بل وهائمون مغرمون، وقدطال علينا الامد، وطال بزوغ الشمس وحقيقتها الناصعة، وقد تنادى الاعداء بانكر الاصوات، لارغامنا وتفتيت قوتنا، شاهرين ما لديهم من سلاح... ايها المنتظرون كفوا ! فلا احد ياتي ولاوجود لحاضر غائب كما تدعون !... ونعراتهم هذه ليست طارئة على المسلمين والاسلام الاصيل، فقد سبقهم اليها بنو امية، حيث انكر يزيد بن معاوية، الذي استخلف بعد موت ابيه، انكر الوحي، والقران والاسلام برمته !، قائلا :

ليت اشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الاسل _ (22)

لاهلوا واستهلوا فرحا

ثم قالوا يا يزيد لا تشل

قد قتلنا القرم (23) من ساداتهم

و عدلناه ببدر فاعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل._ (24).

و لكن ذهبت صيحاتهم واصواتهم، ادراج الرياح، وان اعتادوا عليها ولا يزالون... و" ان انكر الاصوات لصوت الحمير " _ (25). فالانتظار ديدنا وهدفنا الذي نتوخاه... والحاضر الغائب... غائب حاضر، وقادم لا محالة باذن الله تعالى، لان الارض لا يمكن، قط، ان تخلو من وصي وخليفة للرسول الاعظم (ص)، ودليلنا على ذلك، الاحتفاء بكل ما نستطيع، يوم الخامس عشر من شعبان المعظم، لاننا نحتفي، بالمتواجد بيننا... نحسه ونشعر به الى جانبنا كتفا لكتف... ف " السلام والتحية للمحضر المقدس، لمولود الخامس عشر من شعبان واخر ذخيرة الامامة، الامام بقية الله ارواحنا فداه، وباسط العدل الابدي، وحامل لواء تحرير الانسان من قيود ظلم الاستكبار... السلام عليه والسلام على منتظريه الحقيقيين... السلام على غيبته وظهوره... والسلام على اولئك الذين، يدركون ظهوره بالحقيقة، ويرتوون من كاس هدايته ومعرفته. " _ (26).

يا ليلة النصف من شعبان يا قمرا

بين الليالي تحيينا فنحييها

نبدي التذلل للرحمن من وجل

و النفس تلهج للرحمن باريها

يا رب كم كبرت اثامنا وطغت

دنيا ملكناها، نحسوا ونحصيها._ (27).

 

_______

1_ جان بول سارتر (1905_ 1980)، فيلسوف فرنسي ملحد. تشارلز داروين (1809_ 1888) صاحب قانون الوراثة الشهير، الذي شكك خاصة، في خلق الانسان كما هو، من الازل، وكارل ماركس (1818_ 1883)، صاحب النظرية الاشتراكية التي ادت الى ظهور الشيوعية.

2_ الاية 1، الانسان.

3_ مشكاة الانوار في غرر الاخبار، ج1، ص 177.

4_ ايليا ابو ماضي، شاعر لبناني، من قصيدته : لست ادري.

5_ الاية 72، ص.

6_ مستدرك الوسائل، حسين بن محمد تقي النوري، ج 6، ص 353.

7_ الخطط المقريزية، ج 2، ص 369.

8_ ديوان البحتري، الصيرفي، ج1، ص 443.

9_ نفس المصدر، ص 123.

10_ ديوان جرير، شرح محمد بن حبيب، ج2، ص 684.

11_ ديوان ابي نواس، ص 222. 

12_ صحيفة الامام العربية، ج14، ص 180.

13_ هم اصحاب سليمان بن صرد الخزاعي، الملقب بابي مطرف، زعيم بني خزاعة في الكوفة،  (594 م _ 685 م). تخلف عن نصرة الحسين (ع) في كربلاء، لاسباب غير واضحة.

14_ مقاتل الطالبين، ابو الفرج الاصفهاني، ص 185.

15_ العباس رائد الكرامة والفداء في الاسلام، باقر شريف القرشي، ص 9.

16_ عظماء الاسلام، محمد كامل المحامي، كاتب مصري، ص 146.

17_ مشكاة الانوار... ص 232.

18_ نفس المصدر ص 229.

19_ بحار الانوار، ج 1، ص 94، ح 26، نقلا عن تفسير الامام الحسن العسكري (ع).

20_ مقتل علي  الاكبر (ع)، الشيخ حسين البلادي، ص 3.

21_ المعارف الاسلامية، الشيخ محمد علي الزهيري، ج1، ص 25.

22_ الرمح او ما شابه ذلك، بفتح (السين).

23_ القرم من الرجال، السيد المعظم.

24_ اللهوف، ص 181، سيرة ابن هشام، ج3، ص 143.

25_ الاية 19، لقمان.

26_ صحيفة الامام العربية، ج 21، ص 296.

27_ زهير شيخ تراب، شاعر من سوريا.

________

د. سيد حمود خواسته، القسم العربي، الشؤون الدولية، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الامام الخميني (قدس سره).

ارسل هذا الخبر الی الاصدقاء