لا تعود الأمم إلى زيارة الماضي دائمًا من أجل الحساب، ولا كي تطلق صيحات الغضب وصرخات العتب، ولا لتحاكم أفرادًا أو قرارات مهما كان أثرها ومهما كان لها ما بعدها، الأمم تعود أحيانًا لقراءة ماضيها من أجل البحث عن حلول لأزمات حاضرها، للبحث عن بداية، ربما جديدة، تقرأ وتحاور وتحلل، بالضمير الحي، ما جرى وكيف جرى، إذ ربما تجد بين أطلال هذا الماضي العظيم خيطًا يهدي ويلهم.
كانت واحدة من أروع الخطوات، في عصرنا الحالي على الأقل، إعلان قائد الثورة الإسلامية الإمام السيد روح الله الخميني (قدس سره) عن أسبوع الوحدة الإسلامية، وهو قرار استهدف حينها إيجاد نوع من التآلف والوحدة بين الأمة بكل أطيافها، وتحويل خلاف عابر بين متبعي المذاهب على تاريخ ميلاد النبي الأكرم، عليه وآله الصلاة والسلام، من منحة معتادة وفرصة لمخالب الخطب الطائفية إلى فرصة للقاء على أرضية مناسبة، بدلًا من الاحتفاء التقليدي بيوم واحد سواء 12 ربيع الأول أو 17، ليتحول إلى أسبوع ممتد من مظاهر البهجة بهذه المناسبة الجليلة.
إلا أن واقعنا كشف عن ميزة أخرى كبرى لهذه الدعوة النبيلة، وهي توفير مساحة أكبر من الوقت لقراءة الحدث الفارق في حياة الأمة كلها، المنحة الربانية في ذكرى مولد نبي الرحمة ونور الله للعالمين، أسبوع كامل في تدبر أحداث هي الأجل والأتم والأجمل، والأكثر نقاءً في تاريخنا، الهدنة المناسبة للتنفس بعمق من قلب هذه المشكاة النورانية السماوية، وجعلها عيدًا حقيقيًا، نبدأ ما بعده بروح جديدة كليًا، مشحونة بالطاقة والآمال ومحفزة بدفق من سيرة النبي وهديه.
ما تقوله لنا إحدى الحقائق في قصة الرسول الأكرم، هو أن إعادة خلق مجتمع من نقطة الصفر ممكن، وفرص النجاح متاحة، والإرادة الإنسانية مع الاعتصام بهذا الطريق الرباني المرسوم تستطيع تجاوز المستحيل وقهره، وتجارب هذه الأمة الإسلامية، البعيدة منها والقريبة، تقول إنها كانت تظهر معدنها في ساعات المحن والشدة، لا أيام الرخاء واليسر.
النبي محمد عليه وآله السلام قضى 23 عامًا في الدعوة للإسلام، منها 10 سنوات على الأكثر في المدينة المنورة، التي كانت لبنة المجتمع الإسلامي الجديد الأولى، ليتمكن من إحداث هذا التغيير التاريخي الهائل، ليس على صعيد مجتمعه أو إقليمه فحسب، وإنما على الصعيد الإنساني كله، بشكل يضعه في صدارة أكثر البشر تأثيرًا وأوسعهم مدى وقدرة على الفعل، وأكثرهم قدرة على البقاء أيضًا.
كان قلب شبه الجزيرة العربية قبل النبي الأكرم نسيًا منسيًا، أقل بكثير من الصفر، منطقة في وسط شلال هادر من الحوادث يقاس عمرها بعمر البشرية كلها، لم تدخل في أية معادلات أو تجذب الانتباه، الفينيقيين والمصريين والبابليين والفرس أسقطوها كلية من خططهم، الرومان استبعدوها من حسابات وجودهم وأطماع توسعهم التي لم تعرف حدًا أو مدى، الإسكندر المقدوني أكبر فاتح في التاريخ وصاحب أطول مسيرة عسكرية لم يعيرها انتباهًا ولم تلفته في جولاته العديدة، وهي خلاف غيرها من مناطق الشرق القديم، العراق وإيران ومصر والشام واليمن، ليس فيها قبل النبي سوى الفراغ الكامل.
وكضربة برق هائلة في برميل بارود مستعد وجاهز، تحول اللقاء بين السماء والأرض إلى قوة هائلة مندفعة، غطت شرق العالم وغربه، 10 سنوات فقط كانت كافية لتغير وجه العالم والإنسان، في هذا الأسبوع المبارك يحتفي ويبجل ويوقر 400 مليون عربي وثلاثة أضعافهم تقريبًا في العالم الممتد شرقًا وغربًا النبي الأمي كأعظم قائد وأنبل زعيم وأهم مصلح في حياة أمته وحياة أفرادها، على حد سواء.
لم يتوقف تأثير الرسول الأكرم على حياة مجتمع جاهلي، كان أكثر ما يعرفه هو التفاخر اللغزي بالشعر واللسان، وعبر نفخ بطولات قبيلة وعصبية إلى حدها الأقصى، بل حوله إلى القدرة الخلاقة على الفعل والريادة وقيادة الدنيا، لم يغير هذا المجتمع الجاهلي البدائي الذي عاصره فحسب، بل ترك التأثير الأكبر والأبقى في المجتمعات الأخرى وعلى مرّ القرون أيضًا.
..
ولأن هذه الفرصة هي الأهم لإعادة القراءة والتدبر في المعانى الكبرى للرسالة النبوية، ومن ثم، إعادة ربط واقعنا المعاش ببوصلتنا وطريقنا، وسماحة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، في خطابه لهذه المناسبة العظيمة، اختار لها عنوان "والله متم نوره"، وقال إن "هذا المعنى من مصاديق نور الله، وهو النور الذي يستضاء به في الظلمات من الفتنة والتيه، وهو النور الذي يهدي إلى الخير والسعادة".. وهو خير من يعبر عن الرسول الأعظم في هذا اليوم وهذا التاريخ ولهذه المناسبة.
هذه الحرب الشاملة التي تخوضها الأمة الإسلامية لا تحتمل خيارات، الانتصار أو الانتصار، ولا تدخلها وظهرها إلى الفراغ، وفق ما قاله السيد في خطابه، فالنبي الأكرم واجه حربًا على كل المستويات، وهزم كل قوى الشر التي كانت موجودة قبله وفي عصره، و"الله سبحانه وتعالى تعهد أن يتم ويحفظ نوره، وهذا إخبار غيبي مُعجز، لأنه يتحدث عن المستقبل".
الأخطر في معركتنا هي الوعي بقضيتنا وما نستند عليه من قوة، وهي قوة الله العزيز الجبار، والعدو يستهدف باختصار "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، أي عبر الحرب الإعلامية وما نصطلح عليه أنها الحرب الناعمة أخطر وأشد فتكًا من القتال والحرب العسكرية، وهناك أمم وشعوب صمدت بمواجهة الغزو العسكري والاحتلال، ولكنها ضاعت وضعفت ووهنت وتفتت أمام الحرب الناعمة".
من المهم اليوم أن يستمع العالم إلى الصوت الإسلامي، قوى واثق غير متردد في مواجهة التحديات الكبرى والمحنة التي يتعرض لها، خصوصًا في فلسطين والمسجد الأقصى، من الضروري أن يسود خطاب النصر الإلهي الموعود، أمام حفنة من الحكام المتآمرين الأغبياء، ممن يظنون أن اعتصامهم بواشنطن أو تل أبيب يمثل لهم خط حماية ضد إرادة شعوبهم وأحلامها وآمانيها الكبار، من الفروض الواجبة أن نضغط على الجملة التي ذكرها سماحة السيد كشعاع نور في وسط عتمة ظروفنا الحالية وما بلغه وضعنا من صعوبة، "نحن المؤمنون بكتاب الله ننظر إلى المستقبل بأمل وبيقين، وكل ما تعانيه البشرية اليوم هي مراحل لا بدّ منها حتى تصبح مؤهلة لذلك الوعد الإلهي القادم، حتى يتم الله نوره".
--------------
احمد فوأد، موقع العهد الإخباري. القسم العربي، الشؤون الدولي.