بحسب مراسلِ «جماران»، كانَ ذلك في الأول من تشرين الثاني عام 1988حينَ وجّه الإمام الخميني (قده) رسالةً إلى حجةَ الإسلام والمسلمين محمدعلي أنصاري من أفرادِ مكتبه، أكّدَ فيها على بقاءِ بابِ الاجتهادِ مفتوحًا في الحكم الإسلاميّ. اشتهرت هذه الرسالةُ باسمِ «ميثاقِ الإخاء». ونصّ هذا الميثاقِ كما يلي:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سعادةُ حجةِ الإسلام الحاج الشيخ محمدعلي أنصاري ـ دامَتْ إفاضاتهُ
قد اطّلعتُ على رسالتِك. لقد طرحتَ مسألةً يستلزم الإجابةَ عليها طويلًا بعض الشيء، ولكن بما أنّني أكنُّ لك محبّةً، وأراك رجلاً متديّناً وعالِماً — وبنوع ما عاطفي — فأنا ممتنّ دوماً لمودّتِك الصادقة تجاهي. وكموعظةٍ لك ولأمثالِك الكثيرين أودُّ أن أذكّرك بمسائلَ:
كتبُ الفقهاءِ الأفاضلِ عامرةٌ باختلافاتِ الآراءِ والأذواقِ والتأويلاتِ في ميادينَ متعدّدةٍ— عسكرية وثقافيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ وعباديةٍ — إلى درجةِ أنّه في مسائلَ أُشيرَ إلى إجماعٍ بشأنها توجدُ آراءٌ مخالفة، بلْ حتى في مسائلِ الإجماعِ قد يُعرضُ قولٌ مخالف. ودَعْ عنكَ اختلافَ الأخباريين والأصوليين. وبما أنّ هذه الاختلافاتِ في الماضي كانت محصورةً في مجالِ الدرسِ والنقاشِ والمدرسةِ، وتُدوّنُ غالبًا في الكتبِ العلميةِ بالعربيةِ، فقد بقيَ عامة الناسُ عادةً غيرَ مطّلعينَ عليها، ولو اطلعوا لما كانَ لمتابعتها جاذبيةٌ بالنسبةِ لهم. فهل يمكنُ أن نتصورَ أنّ الفقهاءَ لمّا اختلفوا مع بعضِهم — نعوذ بالله — تصرّفوا خلافَ الحقِّ أو خلافَ دينِ الله؟ أبداً.
ولكن اليومَ، وبفرحةٍ عظيمةٍ بمناسبةِ الثورةِ الإسلاميةِ، تبُث أحاديثُ الفقهاءِ والمخلصينِ من الإذاعاتِ والتلفزيوناتِ والصحفِ، لأنّ الحاجةَ العمليةَ إلى هذا النقاشِ قائمة؛ مثلاً في مسألةِ الملكيةِ وحدودها، وفي مسألةِ الأرضِ وتقسيمِها، وفي الأنفالِ والثرواتِ العامةِ، وفي مسائلِ معقّدةٍ كالنقودِ والشؤون المصرفيةِ، وفي الضريبةِ، والتجارةِ الداخليةِ والخارجيةِ، وفي المزارعةِ والمضاربةِ والإيجارِ والرهونِ، وفي الحدودِ والدياتِ، وفي القوانينِ المدنيةِ، وفي القضايا الثقافيةِ والتعاملِ معَ الفنونِ بمعناها الواسعِ: كالتصويرِ الفوتوغرافي، والرسمِ، والنحتِ، والموسيقى، والمسرحِ، والسينما، والخطِّ، وغيرِها. وفي حفظِ البيئةِ وتطهيرِ الطبيعةِ ومنعِ قطعِ الأشجارِ حتى في المنازلِ والعقاراتِ الخاصةِ، وفي مسائلِ الأطعمةِ والأشربةِ، وفي منعِ الولاداتِ إذا اقتضت الضرورةُ أو تحديدِ فتراتِ الولاداتِ، وفي حلِّ مشكلاتٍ طبيةٍ كزراعةِ الأعضاءِ من إنسانٍ إلى إنسانٍ آخر، وفي مسألةِ المناجمِ تحتَ الأرضِ وفوقَها ووطنَيتها، وتحوّلِ موضوعاتِ الحرامِ والحلالِ وتوسيعِ أو تضييقِ بعضِ الأحكامِ في الأزمنةِ والأمكنةِ المختلفةِ، وفي المسائلِ القانونيةِ والقانون الدوليِّ وتطبيقهِ على أحكامِ الإسلام، ودورِ المرأةِ البنّاءِ في المجتمعِ الإسلاميِّ وتأثيرِها الهدّامِ في المجتمعاتِ الفاسدةِ وغيرِ الإسلاميةِ، وحدودِ الحرّيةِ الفرديةِ والاجتماعيةِ، والتعاملِ معَ الكفرِ والشركِ والالتقاطِ والكتلِ المواليةِ للكفرِ والشركِ، وكيفيّةِ أداءِ الفرائضِ في السفرِ الجويِّ والفضائيِّ والحركةِ عكسَ أو مع اتّجاهِ دورانِ الأرضِ بسرعة أكبرَ من سرعةِ الأرضِ أو في الصعودِ العموديِّ وتعطيلِ جاذبيةِ الأرضِ. وأهمُّ من ذلكَ: رسمُ وتحديدُ حُكمِ ولايةِ الفقيهِ في الحكمِ والمجتمعِ. كلّ هذه أمثلةٌ من آلافِ المسائلِ التي يتعرّضُ لها الناسُ والحكومةُ، والتي ناقشَها الفقهاءُ وآراءُهم فيها متباينةٌ، وإنْ كانت بعضُ هذه الموضوعاتِ لم تكن مطروحةً في الأزمنةِ الماضية أو لم تكن لها موضوعيةٌ آنذاك، فلا بدّ للفقهاءِ اليومَ أن ينظروا فيها.
لذلك يجبُ في الحكمِ الإسلاميّ أن يبقى بابُ الاجتهادِ مفتوحًا دائمًا، وطبيعةُ الثورةِ والنظامِ تقتضي أنْ تُعرضَ الآراءُ الاجتهاديةُ — الفقهيةُ — في ميادينَ مختلفةٍ ولو كانتْ متعارضةً بحريةٍ، ولا يملكُ أحدٌ القدرةَ أو الحَقّ على منعِ ذلك. لكن المهمّ هو الفهمُ الصحيحُ للحكمِ والمجتمعِ الذي على أساسِهِ يستطيعُ النظامُ الإسلاميُّ أن يُخطّطَ لصالحِ المسلمين، حيثُ إنّ توحيدَ السلوكِ والعملِ أمرٌ ضروريٌّ، وهنا يكمنُ الفرقُ بأنّ الاجتهادَ المألوفَ في الحوزاتِ وحدها لا يكفي، بلْ إنْ كانَ شخصٌ أعلمَ في المعارفِ المألوفةِ في الحوزاتِ لكنه عاجزٌ عن تمييزِ مصلحةِ المجتمعِ أو عاجزٌ عن تمييزِ الأشخاصِ الصالحينَ والمفِيدينَ من غيرِهم، وبشكلٍ عامٍّ فاقدٌ للبصيرةِ الصحيحةِ والقدرةِ على اتخاذِ القرارِ في الميادينِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ، فإنّ هذا الشخصَ ليسْ مجتهدًا في القضايا الاجتماعيةِ والحكوميةِ ولا يَحسنُ أنْ يتولّى زمامَ المجتمعِ.
ولكن عليك أنْ
تَنتبهَ إلى أنّه طالما أنَّ الخلافاتِ والمواقفِ محصورةٌ في اطار هذهِ المسائلِ المذكورةِ، فلا تهديدَ للثورةِ. فإذا صارَ الخلافُ جذريًا وأُصوليًّا صارَ موجبًا لضعفِ النظامِ، وهذا واضحٌ. وبينما قد توجدُ خلافاتٌ بينَ الأشخاصِ والتياراتِ المنحازةِ للثورةِ، فهي في الأصلِ خلافاتٌ سياسيةٌ وإنْ طُبعتَ بنكهةِ العقيدةِ، لأنّ الجميعِ متّفقونَ في الأصولِ، ولهذا أؤيّدُهم. فهم مخلصونَ للإسلامِ والقرآنِ والثورةِ، ومشفقون على ولكلِّ منهم طرحٌ وفكرةٌ للخدمةِ بحسبِ اعتقادهِ لتحقيقِ ذلك. الغالبيةُ الساحقةُ من كلا التيارين تريدُ استقلالَ بلادِها، وكلاهما يريدُ أن يُقلّلَ من طغيانِ الأشرارِ المتكين على الخارجِ في الدولةِ والسوقِ والشارعِ على حياةِ الناسِ. كلاهما يريدُ أن يعيشَ الموظفُ الشريفُ والعاملُ والمزارعُ المتديّنُ والتاجرُ الأمينُ في السوقِ والشارعِ حياةً طاهرةً وصالحةً. كلاهما يريدُ ألا تكونَ هناك سرقةٌ أو رشوةٌ في الأجهزةِ الحكوميةِ والخاصةِ، وكلاهما يريدُ أن ينمو الاقتصادُ الإيرانيُّ بحيثِ تكونَ له أسواقُهُ في العالمِ، وكلاهما يريدُ أن يكونَ وضعُ إيران الثقافيُّ والعلميُّ بحيثُ يتهافتُ الطلابُ والباحثونَ من كلِّ أنحاءِ العالمِ إلى مراكزِ التعليمِ والبحثِ والفنّ في إيران، وكلاهما يريدُ أن يصبحَ الإسلامُ قوّةً عظيمةً في العالمِ. فما الخلافُ إذًا؟ الخلافُ في أنّ لكلِّ طرفٍ اعتقاده أنّ طريقَهُ هو السبيلُ للوصولِ إلى كلّ ذلك.
ولكن يجبُ على كلا الطرفين أنْ يكونا على وعيٍ تامٍّ بأنّ المواقفَ ينبغي أن تُتّخذَ بطريقةٍ تحفظُ أصولَ الإسلامِ على مرِّ التاريخِ، وفي الوقتِ نفسه تُحافظُ على روحِ السخط الثوري لدى الناسِ ضدّ رأسماليةِ الغربَ وعلى رأسِها أمريكاَ الطاغيةِ، وضدّ الشيوعيةِ والاشتراكيةِ الدوليّةِ وعلى رأسِها الاتحادُ السوفييتيُ المعتدي. يجبُ على كلا التيارين أن يجتهدا بكلِّ ما أوتيا من قُوّةٍ ألا يزيغا قيدَ ذرّةٍ عن سياسةِ «لا شرقية ولا غربية» للجمهوريةِ الإسلاميةِ، فإنْ انحرفوا عنهُ ذرّةٌ فَسيُردُّ ذلكَ بحدّ سيفِ العدالةِ الإسلامية. كما ينبغي أنْ يدركا أنّ لديهما أعداءً كبارًا مشتركينَ لا يرحمونَ أيًا من الطرفين، ويجبُ أنْ يحذرا من أمريكاَ الطاغيةِ والاتحادِ السوفييتيِ الخائنِ للأمّةِ الإسلاميةِ. ويجبُ أن ينوّهَا الناسَ إلى أنّه صحيحٌ أنَّ أمريكاَ الماكرةَ هي العدوُّ رقمُ واحدٍ، لكن أبناءَهُم قد استُشهدوا تحتَ قنابلِ وصواريخِ السوفييتيين. فلا يغفلَا عن مكائدِ هذينِ العملاقينِ المعتدينِ، ولْيعلمِا أنّ أمريكا والاتحادَ السوفييتيَ عطشانُانِ إلى دماءِ الإسلامِ واستقلالِه.
يا اللهُ! كن شاهدًا أنّي قدْ قلتُ ما كانَ يجدرُ أن أقولهُ إلى كلا التيارين، فليعلموا هم. وبالطبع فإنّ شيئًا مهمًا آخر قد يسبّبُ الخلافَ — فَلْنَستَجِرِ باللهِ من شرّهِ — وهو حبُّ النفسِ، وهذا لا يفرق بين هذا التيارِ وتلكَ الجبهةَ. لا يميّزُ بينَ الرئيسِ ومجلسِ الشورى والوزراءِ والنوابِ والقضاةِ والمجلسِ الأعلى للقضاءِ ومجلسِ صيانةِ الدستورِ، ولا بينَ المؤسسةِ الدعويةِ ومكتبِها، ولا بين العسكريِّ والمدنيِّ، ولا بينَ رجلِ الدينِ وغيرِه، ولا بينَ الطالبِ وغيرِ الطالبِ، ولا بينَ المرأةِ والرجلِ. والطريقُ الوحيدُ لمكافحةِ ذلكَ هو الزهدُ والمجاهدة. فدعْنا نمرَّ.
إذا نظرَ السادةُ إلى القضايا من منطلقِ أنّ الجميعَ يرومون دعمَ النظامِ والإسلامِ، ستحلُّ كثيرٌ من المشاكلِ ومايبعث على الحيرة، ولكن هذا لا يعني أنْ يكونَ كلُّ الأفرادِ تابعينَ مطلقًا لتيارٍ واحدٍ. على هذا الأساسِ قلتُ إنَّ النقدَ البنّاءَ لا يعني المعاندةَ، وأنّ التشكّلَ الجديدَ ليسَ اختلافًا بالمعنى السلبي. النقدُ في محلهِ وبنّاؤه يُسهمُ في نموِّ المجتمعِ. وإنْ كانَ النقدُ صحيحًا فسيُرشِدُ كلا التيارينِ. لا ينبغي لأحدٍ أنْ يعتبرَ نفسهُ مطلقًا أو معصومًا من النقدِ. وبالطبع النقدُ غيرُ المواجهةِ الخطّيةِ الحزبيةِ. إنْ كان في هذا النظامِ منْ يَهدِفُ — لا سمحَ اللهُ — إلى إقصاءِ أو تحطيمِ الآخرينَ بلا سببٍ، وأنْ يقدّمَ مصلحةَ جناحهِ وخطّهِ على مصلحةِ الثورةِ، فقدْ ألحقَ بذلكِ الضّررَ بالإسلامِ والثورةِ قبل أن يصيبَ خصمه أو خصومَه. على أيّ حال، من الأعمالِ التي تُرضي اللهَ تعالى بالتأكيدِ: تأليفُ القلوبِ والسعيُ إلى تذليلِ البغضاءِ وتقريبِ المواقفِ لخدمةِ بعضِنا بعضًا. يجبُ تجنّبُ الوسطاءِ الذين يعملون على إضفاءُ الشكِّ والريبةِ تجاهَ الطرفِ المقابلِ فقط. إنّ لديكم أعداءً مشتركينَ كُثُيرًين فتوجّبُ عليكم مواجهةُ هؤلاء بكلِّ قوةٍ، ولكن إن رأيتمْ أحدًا يخرجُ عن الأصولِ فابْدأوا الوقوفَ ضدهِ بحزمٍ.
وأنتُم تعلمونَ أنّ الحكومةَ والبرلمانَ ومسؤولي النظامِ الكبار لم يخرقوا أبدًا الأُسسَ والمرتكَزاتِ ولم يَحِدُوا عنها. فبالنسبةِ لي واضحٌ أنّ في كيانِ كلا التيارينِ إيمانٌ وحبٌّ للهِ وخدمةٌ للعبادِ كامنين. عبرَ
تبادلِ الأفكارِ والبُنَى البنّاءةِ ينبغي تطهيرُ ساحةِ المنافسةِ من التلوُّثِ والانحرافِ والإفراطِ والتفريطِ. أُعيدُ وأؤكّدُ أنّ بلادَنا في مرحلةِ إعادةِ البناءِ والتنميةِ بحاجة إلى التفكيرِ والوِحدةِ والأخاءِ. أسألُ اللهَ أن يوفّقَ كلَّ مَن يتألّهُ قلبُهُ لإحياءِ الإسلام الأصيل المحمدي صلى الله على محمد و آله و سلم ـ وللهزيمةِ على ما يُسمّى بالإسلامِ الأمريكيِّ، وأن يَحفظَكم جميعًا تحتَ رعايتهِ وفضلهِ، وأن تكونوا ـ إن شاءَ اللهُ — من أنصارِ الإسلامِ والمحرومينَ.
روحُ اللهِ الخميني
-------------------------
القسم العربي، الشؤون الدولية.