العقول الذكية دائمًا ما تجتاز الاختبارات، لكن العقول المُفكرة هي وحدها التي تُغير وجه التاريخ، تلك هي إحدى مُخاضات التجربة الإنسانية، وبالطبع لا ينتمي الكيان الصهيوني لا إلى هذه ولا إلى تلك، لأنه بالفعل لم يستطع فك الاشتباك مع المآزق والإشكاليات والأزمات الجيوسياسية، بل إنه قد أضاف لذاته مُشكلات على درجة بالغة من التعقيد والاستحالة، ولأنه أيضًا جعل أطراف الخصومة معه هم الذين يرسمون ملامح أخرى للقضايا والأشخاص ولَمَعَان الحق والحرية وصحوة الضمير الأخلاقي.
وبالطبع هم من حققوا نقلة نوعية مثلت مُنعطفًا إيجابيًا في المشهد الدولي المعاصر تجلَّت آخر نتائجها في إعلان تلك المقاطعة الأكاديمية مع كافة الجامعات الإسرائيلية على أثر ذلك التواطؤ والمُهادنة من رموزها لسياسات الاحتلال المُتمثلة في إبرام وتنفيذ إستراتيجيات الإبادة للشعب الفلسطيني.
وقد توحدت الرؤى والاتجاهات حول ذلك خلال العديد من الجامعات والمؤسسات البحثية في كل من إسبانيا والنرويج وبلجيكا والبرازيل وهولندا وغيرها، بينما اختلفت التوجهات إزاء تلك القضية على الصعيد الأوروبي، فقلة من جامعات فرنسا وإنجلترا وألمانيا دعمت موقف المقاطعة، بينما الأكثرية من جامعات إنجلترا كان لها موقف الضد؛ باعتبار أن ذلك يُشوه مَعَاني حرية البحث العلمي ويُقيدها ويُطيح بجوهر التقدم ويدفع نحو تراجع السباق الحضاري.
وعلى مستوى آخر، كان الموقف أن المقاطعة ستُعاقِب الأكاديميين المُعارضين لتوجهات السياسة الإسرائيلية، وفي ذات الآن كان هناك صوت "إيلان بابيه" يُجاهر بأن الغالبية العظمى من الأكاديميين مُهادِنون للنظام العبري، وبالتالي تكون المقاطعة مَحل جدارة واستحقاق.
وعلى ذلك، فقد كان هناك العديد من الجرائر السلبية على الساحة الأكاديمية للكيان العبري والتي تمثلت في قطع التحويلات الخارجية من برامج البحوث العلمية، بجانب موقف المفوضية الأوروبية التي أعلنت في صرامة تعليق مُشاركات الكيان في الساحة الأكاديمية، إضافة إلى انخفاض عدد الباحثين الفائزين بمِنح المجلس الأوروبي للبحوث.
وتبعًا لذلك وإزاء هذا الموقف، فقد تكبد الكيان ملايين الملايين لمواجهة تلك المقاطعة، وهو ما كان له من الأثر السلبي على الوضع الاقتصادي.
ولعل هذه القضية بوضعيتها المعاصرة تفرض طرح تساؤلات عديدة منها: هل يعني غياب الضمير السياسي لدى النظام العبري غيابًا للضمير العلمي لدى الأكاديميين؟ وكيف ينساق الأكاديميون وراء أنظمة خَرْقاء بينما يجب أن يظلوا هم البوصلة الرشيدة للتوجهات المجتمعية؟ وكيف تتسق الأكاديمية المُنضبطة مع تلك الفوضوية العارِمة التي يُشعلها النظام كل لحظة؟ وكيف يظل للأكاديمية وَقَارُها في ظل غياب المصداقية والموضوعية؟ وهل يعني دعم الكيان الموافقة والتأييد المطلق لكافة مُمارساته؟ وهل يمكن الاختلاف حول مَلحمة الإبادة الجماعية في غزة مهما يكن جُموح الرأي والرؤية؟ وهل يرتضي الأكاديميون قطع جُسور التواصل العلمي مع غيرهم من أشخاص ومؤسسات ومُنظمات؟ وكيف يكون أثر ذلك مُستقبلًا على الكيان العبري الذي يُشيد دائمًا بتفوق جامعاته وأكاديمياته ومؤسساته؟ وإلى أي مدى يمكن أن يؤثر موقف المقاطعة والعُزلة على مسار البحث العلمي وحركة التقدم؟ وكيف يمكن استساغة هذه العُزلة بينما التفرد العلمي للكيان وليد كافة التوجهات العلمية غربًا؟
ولعل الإجابة على تلك التساؤلات إنما تؤكد سقوط إحدى أساطير الصهيونية الزاعِمة بعنصرية التمَيُّز والتفرد والرقي على باقي الأجناس البشرية، ولو صح ذلك ما قررت الأكاديميات والجامعات ومراكز الأبحاث المقاطعة والإقصاء لجامعات الكيان العبري، وهو ما يتجلى معه أن درجة الاحتياج للتعاون والمشاركة العلمية ليست حتمية أو تُمثل ضرورة قُصوى بالنسبة للآخر الغربي، لأن كل الحقائق تُشير إلى أن للكيان دورًا وظيفيًا في حركة التقدم العلمي، وليس دورًا عُضويًا يُخوِّل لها ما تُقدمه من ادعاءات جَوْفاء.
وبصفة عامة، لقد أحدثت صرخات الإعلامي الأمريكي الشهير "تاكر كارلسون" هزة عنيفة وصدمة مروعة للضمير الأمريكي حين تساءل عن سر النفوذ الصهيوني عالميًا، وفي أمريكا بشكل أخص، ولماذا هم الحلفاء الأهم لدى أمريكا؟ وكيف أن كل مُمارسات الكيان الصهيوني مُتعارِضة تمامًا مع كافة تعاليم الكتب السماوية؟ ناسفًا بذلك أكبر وأخطر الأساطير المُؤسِّسة للسياسة الإسرائيلية حين أكد أن الله لا يختار شعبًا يقتل الأطفال والنساء، وطبقًا لهذا انطلق داعيًا إلى سحب الجنسية الأمريكية من كل مواطن يتطوع في جيش الاحتلال.
تلك كانت إحدى العواصف المنددة بالكيان العبري وسطوته الزائفة التي أدخلت خطوط السياسة الدولية في سِرداب مُعتم سقطت فيه كل أسس المنطق وثوابت الأخلاق وتداعت فيه المبادئ، لكن لم يُصبح للحقيقة غير وجه واحد هو لَفظ الكيان وإقصاؤه خلال موقف فكري ثقافي علمي يجب أن تنصاع له كل الأنظمة والشعوب والمُنظمات حتى داخل الكيان ذاته، قبل أن يجرفه تيار النهاية ذلك الذي أطاح بإمبراطوريات ودول صارت في قبضة العَدَم دون أن تترك وراءها فضيلة تُذكر!
كاتب مصري ، جريدة الاهرام 25 تشرين الثاني 2025 .
-----------
القسم العربي ، الشؤون الدولية ، جريدة الاهرام المصرية.